شيء من العمر في بني عمرو

كتبت هذه الكلمات في مرحلتين.... فبعضها كان وليد ليلة فرحة خبر النقل، وبعضها الآخر قديم؛ حين كانت تفيض بي المشاعر بعض أيام غربتي... فقد كتبت في ليلة فرحة خبر النقل:

حلمت طويلًا بهذه الليلة، حتى ظننتها ضربًا من الخيال بعيدة... وأن الحلم البسيط للاستقرار صعب المنال... ذهبت إلى هناك قبل خمسٍ من السنوات، وعدت أنا ابنة النخيل وابنة واحة الأحساء والساحل الشرقي، وقد عانقت الجبال حتى ظننت أنني لامست السماء.

لم أكن أعلم أن للفرح تعبًا حلو المذاق، حتى تعبت في تلك الليلة من الفرح، وآلمتني عضلاتي ومفاصلي من فرط التعبير عن البهجة... خمسٌ من السنوات على قمم سلسة جبال السروات، التي احتضنتني بشموخها وهيبتها، حتى أكسبتني بعضًا من روحها.

شكرًا لله أولًا وأخيرًا، إذ وضعني في موضع هو أكثر ما أحتاج إليه لأسمو وأتطور.

وشكرًا له على كل اليسر الذي مررت به والتسهيلات والتسخير... فقد كان يحيطني وأبنائي برحمته في صغير الخطوات وكبيرها.

شكرًا لوالديَّ اللّذَينِ كانا، منذ نعومة أظفاري وامتدادًا إلى جميع مراحل حياتي، ولا يزالان الداعم الأكبر بجميع أنواع الدعم والمساندة.

كان أبي نبراسًا لي، ولا يزال المرشد والناصح والعراب ماديًا ومعنويًا.

كانت أمي تمدني بالرعاية، حتى بعد أن بلغت من العمر ما بلغت، فاستمرت توقظني - حفظها الله - كل صباح حتى اليوم، لتطمئن أنني ذاهبة للعمل.

شكرٌ لا ينتهي لزوجي الذي مهد لي الطريق وعبّده وسهل لي الصعوبات كلما اشتدت.

امتناني ودفء أحضان تفيض بالمشاعر لأطفالي الثلاثة، لرفقاء الحل والترحال... لأصحاب السفر... إذ أخذتهم معي في دارٍ ليست بدارهم، وأبعدتهم عن أحضان والدهم... وتحملنا معًا وعورة الطريق، وطول المسافات، ومشقة التنقلات، والسفر آناء الليل وأطراف النهار.

كل لحظات البعد والاغتراب، إن أوجعتكم مرة فقد أوجعتني ألفاً مثلها... وكل الدموع التي رأيتها تلمع في أعينكم ذرفت ألفًا مثلها... وكم كنتم أنتم الأحضان التي ألوذ بها حين تضيق بي الوسيعة، والأرواح التي تشفيني دون أن تعلموا.

كل الأيام الجميلة التي قضيناها هناك معًا زادتكم قربًا مني، حتى ظننت أن هذه الرحلة ما هي إلا فرصة إلهية لهذا القرب.

شكرًا، لأخواتي وأخي، إذ لم يشعروني يومًا بأنني البعيدة عنهم، على رغم قلة مبادرتي بالتواصل... فلم يسأموا ولم يعتبوا عليَّ تقصيري، بل كانوا يمدونني بأطنان من المحبة اللامشروطة اللامتناهية، التي يذكرونني بها باتصال في كل وقت وظرف وأي تجمعٍ عائلي يخلو مني... وفي جل تفاصيل أيامهم ونجاحاتهم وإخفاقاتهم إن وجدت.

ممتنة جدًا لسنوات الغربة بكل مواقفها السهلة والصعبة التي صنعت مني إيمانًا مختلفة كليًا، وأظهرت مني الصلابة والحكمة والنضج، إذ إنني عرفت ذاتي في أيام الوحدة أكثر من ذي قبل... ومنها عرفت القيمة الحقيقية لكل ما حولي.

شكرًا لكل صديقاتي المخلصات اللائي لم يزدهن البعد إلا شوقًا ورغبة في الاطمئنان، ومحبة مستقرة لا تغيرها السنون ولا تقلبات الظروف، ولا يبهت بريقها مع انطفاء وهج الحياة في عينيَّ في بعض الأحيان.

ممتنة لحبي المنير؛ صديقتي «منيرة»، صديقة الغربة، البعيدة القريبة، الصدوقة التي كان صمتها أكثر صدقاً من كثير من المتحدثين.

ممتنة لكم... لكل المحبين... لكل الأيادي المرفوعة إلى السماء، لكل الدعوات الخفية التي كنت أستشعرها وألمس أثرها في التسهيل والتسخير الذي يظهر لي في الطريق، وفي الليالي العصيبة، وفي لحظات الاشتياق والاحتياج، وفي الفرح والضحكات.

محبتي وامتناني لكم، أهلي وأحبتي وصديقاتي... ولكل من شاركنا الفرح، باتصال أو ترقب أو انتظار لهذا الخبر المفرح... لكل الزغاريد والتبريكات.

لكل قطع الحلوى والنقود التي انتثرت فوق رأسي منكم فرحاً لي ومعي... كل ذلك في قلبي وأمام عينيّ... أنا حقًا محظوظة بكم وفرحةً معكم.

سوف أتذكر بني عمرو بكل الحب كلما مرت بي غيمة ساحرة أينما مرّت بي الأيام.

سوف أتذكرها كلما هبت رياح باردة، وكلما أمطرت السماء في فصل الصيف... وكلما حجب عني الضباب رؤية سحر السماء.

سوف أتذكرها وسوف أشتاق، بل اشتقت، سأرفع يديَّ بالدعاء لها وللطيب من أهلها كلما رأيت من البشر طيب المعدن وحسن المعشر وبالغ الكرم.

سوف أتذكرها كلما تذوقت الخبز الجنوبي والمشغوث و«العيش» والعسل، وكلما رأيت في أي من المحافل الخطوة الجنوبية التي علموني أداءها بكل محبة.

تعلمت من عظمة جبال السروات الصمود والشموخ والصلابة... فإذا لامست قدماي الوحل يظل رأسي شامخًا يعانق الغيوم، وتلامس يداي الفراشات.

وإني، وإن التوت الأمور يوماً هناك وتعقدت، فلن أخرج من تلك المرحلة سوى بكل الامتنان لعسير ولكل من صادفتهم في أيامي الغريبة هناك، وتركوا الذكرى الجميلة وحسن الأثر، وهم هناك كُثُر.

قد وعدت نفسي، من قبل، أن أفرح حد الثمالة حين الفرح، وأن أعطي الفرح حقه كما قد أعطيت الحزن حقه من قبل... ووعدت أن أدون اللحظات الجميلة.

أما وقد حان وقت الفرح، بعد أن مضى ما مضى، فها أنا ذي الآن أفرح.