عبدالله «9»
أكمل عبدالله حديثه قائلا: نعم تلك هي غرفة السيد هاشم، جلست معه تلك الليلة وكنت استمع لحديثه فوجدته حديثاً يتسلل للقلب، حديثاً مشبعاً بآيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول وأهل بيته .
نعم حديثه هادئ ولكنه يشحنك بالطاقة والحياة والأمل، يحدثك عن المسؤولية والهمة العالية والتطلع في الحياة، يحدثك عن التآلف بين الناس، والتواصل الإيجابي بين المؤمنين، واعتبار الجامعة فرصة للتعارف وإنشاء شبكة علاقات اجتماعية...
كنت استمع إليه دون أن أشعر بمرور الوقت حتى نظرت للساعة فوجدتها الساعة العاشرة ليلاً، قلت أعتذر أيها السيد لقد تأخر الوقت ويجب أن أعود لغرفتي..
ابتسم السيد هاشم وقال: اعتذر منك إن كنت أثقلت عليك بالحديث...
قلت: لا تقل هذا... بل أنت بعثت في نفسي الروح والانطلاق متحدياً كل العقبات في الجامعة...
ابتسم السيد هاشم وقال: نسيت أن أخبرك أننا نقيم صلاة الجماعة في هذه الغرفة ويسعدنا حضورك معنا...
سألته أي فريضة تصلون صلاة الجماعة؟
قال السيد هاشم: صلاة المغرب والعشاء... أهلا بك...
في اليوم الثاني: حضرت لصلاة الجماعة، فكانت صلاته صلاة الخاشعين...
بعد الصلاة جلس السيد هاشم قرأ آية: ”يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ“ مريم: 12 وتحدث بكلمات عن أهل البيت بعنوان الفاعلية في طلب العلم... كنت استمع لحديثه الجميل، وكنت أرى فيه التطبيق العملي لهذا الحديث حيث أنه كان مجتهداً في دراسته، وتخرج من الكلية بدرجة «ممتاز».
أضف إلى هذا أن السيد هاشم كان محباً للرياضة فكان يخصص وقتاً للرياضة مع الشباب، وكان صاحب تجمع رياضي يلعب مع مجموعة من الشباب الذين أصبحوا فيما بعد من رواد غرفته للصلاة جماعة.
كنت أرى السيد هاشم صاحب البسمة المشرقة، ولكني كنت أشعر أن لديه حزناً عميقاً في قلبه، كما قال الإمام علي : ”الْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ، َحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ“
في هذه الأثناء توقف عبدالله عن الحديث...
نظرت إليه فرأيته يمسح عينه..
رأيت دموعه...
قلت: ما بك؟!
قال عبدالله: لقد حدثتك عن المرحوم السيد هاشم...
قلت متعحباً: هل توفي... متى وكيف؟!
قال عبدالله: نعم لقد توفي السيد هاشم وهو في ريعان الشباب، توفي في حادث مؤسف في شهر شعبان عام 1433 هـ ... فكانت وفاته حدثاً مدوياً في قريته... لقد خرج جميع أهالي القرية لتشيع جنازته...
توقف عبدالله عن الحديث ورايته يحرك شفتيه... «لعله كان يقرأ سورة الفاتحة» ثم قال هكذا يرحل الأتقياء الأبرار...
بعد دقائق من الصمت...
قال عبدالله: استمر الوضع في الكلية بين مد وجزر، بين مواد دراسية سهلة ترفع المعدل وأخرى صعبة تعود بك للوراء... كان هناك مجموعة من المدرسين «أعضاء هيئة التدريس» كانوا في قمة المهنية والعلمية، وكانوا يتعاملون مع الطلاب بحب وإخلاص، وكان هناك بعض المدرسين يتعاملون مع الطلاب بكل عنف.. وكانوا سبب في تأخر بعض الطلاب في التخرج...
والآن دعني أحدثك عن الضيف الذي سبق وأن وعدتك أن أحدثك عنه...
قلت: ألم يكن الضيف هو المرحوم السيد هاشم...
قال عبدالله: لا... السيد هاشم كان الضيف العزيز الذي أحببته.. أما هذا الضيف فهو ضيف لم أتوقع حضوره في الكلية... ولم أره منذ زمن طويل...
قلت: لقد شوقتني... هيا حدثنا عن ضيفك
قال عبدالله: في أحد الأيام عدت مع زميلي في الغرفة «هاني» بعد الانتهاء من مادة «عملي» واقترح هاني أن نتعشى خارج مطعم الكلية... قلت لا بأس... لكني دعني «اسبح» وبعدها نخرج للمطعم...
خرجت مع هاني للمطعم... «مشيا»... لم تكن المسافة طويلة بين الكلية والمطعم.. واستلمنا العشاء وقررنا أن نعود للسكن ونتعشى في الغرفة...
أثناء عودتنا شعرت أني متعب... بدأت امشي دون شعور بمن حولي... بدأت عيني تزغلل... لا أشعر أين نحن... كان هاني أمامي... لكني كنت اتبعه دون شعور... دخلنا الغرفة... بعدها لم أشعر بما حدث...
لقد فقدت الوعي..
صُدم هاني من المشهد... فهذه هي المرة الأولى التي يراني بهذا الشكل...
ذهب هاني مسرعاً للغرفة التي بجانبنا ولكنه لم يجد فيها أي طالب... ذهب للغرفة الأخرى بحثاً عمن يساعده في مثل هذه الحالة... حتى وجد مجموعة من الشباب من الأحساء صار يصرخ هيا تعالوا معي زميلي مغمى عليه...
جاءوا لغرفتنا وتعاونوا على نقلي للمستشفى...
بعد مدة من الوقت فتحت عيني... فوجدت نوراً ساطعاً موجهاً لوجهي... قلت في نفسي... أين أنا هل أنا في يوم المحشر... ما هذا النور...
بعد لحظات اتضحت الرؤية عندي فوجدت نفسي في المستشفى وحولي مجموعة من الأطباء والتمريض... سألني أحد الأطباء: الحمد لله على السلامة... هل أنت مريض بالسكري...
نظرت إليه وقلت: نعم...
قال: كيف أصبت بهبوط السكر؟!
بدأت أفكر قليلا... ثم قلت: كانت غلطتي أنني أخذت «حقنة» الأنسولين وتأخرت في تناول الوجبة... «سبحت، ثم ذهبت للمطعم مشياً، وبعدها عدنا للسكن مشياً دون أن آكل وجبة» واستغرق هذا المشوار تقريباً 45 دقيقة كانت كفيلة أن تدخلني في غيبوبة السكر...
قال الطبيب: هذه غلطة والحمد لله أنها انتهت بهذه الصورة... أتمنى أن تنتبه لصحتك وأن لا تكرر هذا الخطأ مستقبلا...
عدنا من المستشفى وكنت أشعر أنني فقدت الذاكرة لبرهة من الزمن، وبدأت بعدها بعملية استرجاع الأحداث. كنت أشعر بالصداع ربما بسبب التفكير فيما حدث، والأمر الآخر كنت أشعر بالتعب الشديد في جميع أجزاء جسمي.. حالة هبوط السكر ليست بالحالة العادية والحمد لله أنها أنتهت بهذه الصورة كما قال الطبيب...
فكان هذا الضيف الذي زارني دون موعد مسبق...
ضحكت وقلت: ظننت أنك ستحدثني عن أحد الشباب... الحمد لله على السلامة، والحمد لله أنك لم تفقد الذاكرة...
قال عبدالله: الحمد لله على كل حال...
الآن دعني أحدثك باختصار عن نهاية الدراسة في الكلية وما رافقها من أحداث أخرى...
قلت: تفضل...
قال عبدالله: في الفضل الدراسي الآخير سجلت جميع المواد المتبقية، وبقيت مادة الرسم الهندسي «ساعة واحدة» لم تسجل لي... ومعنى ذلك أنني ستأخر فصلا كاملا إذا لم أدرس هذه المادة... ذهبت للمرشد وأخبرته بالمشكلة..
نظر لي وقال ألم تكن هذه المادة تنزل لك في الفصول الدراسية السابقة؟
قلت: نعم نزلت لي ولكني كنت أحذفها لأدرس مواد أخرى لأرفع معدلي... والآن لم تنزل... هل اتأخر في التخرج بسببها... هي ساعة واحدة...
قال المرشد: ارفع خطاب اشرح فيها ظروفك وأنك خريج...
كنت أتابع تسجيل المادة يومياً مع المرشد.. الأيام تمضي... حتى مضى أسبوعين وبعدها تم إدراج المادة «الرسم الهندسي» في جدولي... والحمد لله اكتملت الساعات الدراسية...
في هذا الفصل كان يتطلب مني إعداد مشروع التخرج... اجتمعنا مع الدكتور المسؤول عن المشروع وشرح لنا طريق عمل المشروع...
قال الدكتور المسؤول عن المشروع: مطلوب منكم تصوير المشروع خطوة خطوة.. من سيقوم بهذه المهمة... رفعت يدي وقلت أنا سأقوم بهذه المهمة..
سألني هل عندك كاميرا... نريد صورة دقيقة... واضحة...
قلت: عندي كاميرا وإن شاء الله تكون الصور بالمستوى المطلوب...
عند أول تقرير اجتمعنا مع الدكتور ونظر للصور.. وقال متذمراً ما هذه الصور... نريد صورة أكثر وضوح... صور احترافية...
كنتُ استخدم كاميرا سوني «ديجتل» صغيرة الحجم، وليس بها وظائف حديثة للتصوير...
قلت للدكتور: إن شاء الله في المرات القادمة تكون الصور أفضل...
عملنا بكل جد لإنهاء لمشروع وكتابة التقارير وتنسيق الصور... حتى اكتمل المشرع وتم تسليمه للدكتور وبذلك نكون قد أنهينا هذه المادة بعد معاناة مع الدكتور نظرياً وعملياً...
والآن بقي علينا أن نتهيأ للدخول في ميدان التطبيق...
قبل نهاية الفصل الدراسي الثاني يتم إعلان اسماء الطلاب الذين سيطبقون، وكنت واثق من تخرجي... وعادة ينجح جميع الخريجين...
ذهبت لأرى اسمي في أي شركة سيتم توجيهي.. كنت أتخيل التطبيق في إحدى شركات سابك... هذا حلم جميع الطلاب...
رأيت مجموعة من الطلاب متجمعين عند لوحة الأسماء... بدأت أقرأ في القوائم... القوائم كثيرة... أين اسمي... أين... بدأت ضربات قلبي تزداد...
للقصة بقية