شموعٌ تحترق !

 

 

 

بينما هي جالسة في حديقة المدينة بين الأشجار تحرك شعرها الطويل المنسدل على قرص وجهها بيديها لتفاجئ خيوط الشمس الذهبية بنورها القمري ..

تراجعت بجسدها على ذلك الكرسي الخشبي واستنشقت بعمقٍ وأغمضت عيناها الزرقاوتان لوهلة ! وتبسم ثغرها واحمرت وجنتيها الجميلتين حينما ارتسم في مخيلتها " وسام " الذي ذابت فيه عشقاً ..!

واسترجعت طفولتها التي كان له النصيب الأكبر منها

وكيف كانت تمسك بيده ؟!

وكيف أهدته ألعابها ..؟!

بل أكثر من ذلك ..! أهدته قلبها الذي صار أسيراً له مدى الحياة ..!

وسام / الفتى الوسيم الذي وُلد بعد طول انتظار لأبوين من الأثرياء !

ومع ذلك كان له أصدقاء من الطبقة الفقيرة

ومنهم أحمد / الشاب اللطيف صاحب الخُلقِ الرّفيع الذي علمه :

أنّ العيش في عزةٍ وكرامة هو ما ينبغي للإنسان أن يحيا بهما في هذه الدنيا ..

تنهدت ميساء ... تذكرت كيف أن ذلك كان سبباً في إلقاء القبض عليه من قبل سلطات أمن الدولة وهو لا زال في بداية المرحلة الثانوية ..

حيث أن الدول العربية كانت تمر بالربيع العربي الذي انتفضت فيه الشعوب العربية على أنظمة الاستبداد والظلم والمطالبة بالحرية والكرامة

وقد حققت بعض هذه الدول ما أرادت بقوة إرادتها وإصرارها على التغيير ..

ولم تكن منطقة وسام بعيدة عن هذه الأحداث فقد انطلقت شرارة المطالبة بالتغيير على يدي رجل لم يُعرف للخوف مكانٌ في قلبه ممّا جعل الجماهير تتحرك معه ! ولم يكن وسام وصديقه أحمد يقفا موقف المتفرج ..!!

حيث كانت غرفة أحمد الصغيرة في ذلك البيت المتواضع مقراً للعمليات والتخطيط ، وحاسوب وسام سلاحٌ زعزع أمن الدولة ، والأصدقاء ومن يعرفان خلية جهادية تعمل على تحريك الشارع بمسيرات سلمية وكتابات تطالب بالحرية ؛ ولكن النظام الظالم لم يستجب لمطالب الشعب وقابلها بالعنف فسقطت أجسادٌ بدمٍ بارد ومن بينهم أحمد !!

واُعتقل أبرياء وفي مقدمتهم وسام !!

ميساء المُتَيّمة تسترجع مشهد جديد في حياتها : فرحة وصولها إلى الثانوية العامة بينما وسام يتخرج منها ليقرر إكمال دراسته في الخارج ..

وما هي إلا أسابيع ... أكمل وسام خلالها أوراقه الرسمية في جامعة هارفارد ( Harford ) في مدينة كامبرج (Cambridge) بولاية ماساتشوستس (Massachusetts ) الأمريكية تخصص " قانون " ..

ليسافر إليها بعد ما تم قبوله هناك ..

بعد وصوله وحتى لا يذوب في ذلك المجتمع كما ذاب غيره من الطلاب العرب المغتربين ، وضع خطةً من أهدافٍ وشروط ومبادئ يعيش بها ليتخطى مستنقعات ذلك المجتمع إن أجبرته الأيام المرور بها والاستفادة من التطور العلمي لذلك المجتمع ، فقد إلتحق بدورات مكثفة في حقوق الإنسان مما أهلّه لأخذ العضوية في منظمة حقوق الإنسان ..

شهورٌ وأيامٌ تمضي .. ووسام في أرض الغربة وقلب ميساء يعتصر ألماً لفراقه واشتياقاً لرؤيته فقد رفضت الإقتران بكل من تقدم لها وفاءً لقلبها المُتَيّم ..

بينما وسام تعرف على طالبة مغربية " ملاك " وقد شغلت تفكيره وقلبه وتقدم لطلب الزواج منها متناسياً حب ميساء الذي ظهر جليّاً في تصرفاتها معه ..!

يستأجر وسام وملاك بيتاً صغيراً بالقرب من الجامعة التي كانت السبب في لقائهما لأول مرة ، واصل الزوجين بناء عشهما الصغير ، فكان كل شيء متواضع : البيت وما فيه من أثاث ..

وسام لم يُخبر والديه بزواجه واكتفى بما يرسلانه من مال مع عملٍ إضافي لمدة ساعتين يومياً في أحد مطاعم المدينة ..

استمر الزواج سراً لمدة سنة إلا أن الظروف المادّية الصعبة للزوجين ، اضطرته لإخبار والديه ...

لم تكن ردة فعل الوالدين قوية لأنهما ينظران للأمر على أنه حقٌُ له في اختيار من ستكمل معه مسيرة الحياة ..

اعتصر قلب ميساء ألماً حينما زُف إليها الخبر ..!! فكانت تشعر بأن حلمها الوردي شارف على الإنتهاء وأنها ستفيق على واقعٍ ملونٍ بفنون العذاب يجعلها كالميِّتة ولكن ....

بقلبٍ ينبض لأن داخله وسام ..

بعد سنوات يُكمل وسام دراسته ويقرر الرجوع إلى أرض الوطن ولكن بدون ملاك ، فحياته الزوجية لم تكن مستقرة طيلة تلك السنوات ، فملاك تربت على عادات وتقاليد وانفتاح كبير في ذلك المجتمع مما جعلها في خلافٍ مستمر مع وسام ..

فلم تكن الأيام التي عاشاها تحت سقفٍ واحد سبباً في تقليص الفوارق بينهما ..

ولكن حبه لملاك جعله يتمسك بها حتى آخر اللحظات التي قرر فيها العودة إلى الوطن ليفاجئ بموقف ملاك أنها لن ترحل معه ، فيقرر وسام إنهاء علاقته الزوجية .. بعد تفكير طويل ..

تراجع وسام عن قراره بعد أن أخبرته ملاك أنها حامل !!

تقطف ميساء وردةً حمراء وتغادر كرسيها لتخطو عدة خطواتٍ لتجلس على كرسي آخر لتقرر كيف ستكون علاقتها بوسام فغداً يصل بعد طول انتظارٍ وشوق ..!؟؟

ميساء في المطار بعيدة عن أنظار المستقبلين تنظر لوسام بعينيها الممتلئتان بالدموع وقلبها الذي أحبه بجنون ..

غادر الجميع المطار ، بينما جلست ميساء في مقهى المطار وطلبت من عامله كوباً من القهوة..

كانت تجلس جمانة زميلة ميساء في الدراسة سابقاً مع أخيها زياد العائدين من رحلة دراسية في الخارج في الطاولة المجاورة لميساء ..

تنظر جمانة لميساء التي كانت شاردة الذهن وتقترب منها وتمد يدها لتصافحها وزياد ينظر إليهما وقد اهتز قلبه وتحركت مشاعره تجاه ميساء ..!

قبل أن تغادر جمانة عرفت ميساء على أخيها زياد الذي بدى متأثراً كثيراً بالمجتمع الذي قَدِمَ منه حيث كانت ملابسه ضيقة ، والرسومات تملؤها ، وقصة شعره الغريبة وقد تخلى عن لحيته وشاربه وعلّق قلادةً على رقبته وسوارٌ في معصمه !!

مما جعل ميساء تتبسم .. وتضيفه إلى قائمة المرفوضين !!!

بعد ذلك تقدم لخطبتها ولكن قلبها لم ينفتح بابه منذ دخله وسام ..

لم ينسى وسام صديقه أحمد ودماء الشهداء التي أُرِيْقَت في سبيل الحرية ، فَواصل مشواره من خلال إصدار بيانات وعقد ندوات وإجراء اتصالات بالمنظمات الحقوقية ؛ مما جعل عيون النظام ترصد كل حركة تصدر منه وتتربص به حتى استشاطت غضباً ليكون يوم اعتقاله : دخول ملاك غرفة العمليات ..!

لتنجب له مولودةً اسمتها " فرح " التي لم ترى أباها ولم تجده بجانب أمها حينما خرجت إلى هذا العالم ولم تشعر بالأمان ولم يكن لطفولتها معنى بدونه ..

ثلاث سنوات ووسام خلف القضبان ليخرج مهشم الوجه وعاهةٌ تعيقه عن النطق وأخرى عن الحركة من أثر التعذيب الذي حل به ليكون طريح الفراش طيلة حياته التي أصبحت سوداء إلا من نور شمعة احترقت لتضيء له الحياة إنها " ميساء " ..

وهناك شموعٌ في حياتنا تحترق ،، من أجلنا لـ تضيء لنا الحياة ..

مدرس أحياء في المدرسة الثانوية بأم الحمام