الجينة المسؤولة
قال جلّ وعلا في سورة البلد، آية 4: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ - صدق الله العليم العظيم.
يقول ريتشارد دوكنز في كتابه «الجينة الأنانية» إنّ جُلَّ الجينات تحتوي على صفات أنانية ولكن هناك خصائص جينية تحمل صفات الإيثار إذ تضحي بنفسها أحيانا من أجل الغير وهذا يتجلى في أنْ تضحي بعض الغزلان بنفسها حينما تفقز عاليا لتنذر قطيعها عن الضواري، وهذا الفعل يعرضها للخطر أكثر من غيرها من الطرائد. من ضمن هذه الصفات، ربما تكون هناك جينات عندها شعور بالمسؤولية أكثر من غيرها حيث نرى البعض يتحمل مسؤوليته وربما مسؤولية غيره منذ الصغر بينما في الطرف الآخر هناك أفراد لا يشعرون بأي مسؤولية إطلاقا.
الجينوم البشري شريط طويل جدا؛ يحتوي على ما يقارب 3 مليارات خانة من الحروف. في اللغة العربية، هناك 28 حرف من الألف إلى الياء. حروف الجينوم 4 فقط وهي A وC وG وT. الجينوم عبارة عن كتاب تكتب في كلمات، وتسمى هذه الكلمات بالجينات التي تتكون من أحماض أمينية طول كلمتها يقارب 15 ألف حرف جيني فأكثر. ولنعرف حجم هذا الكتاب، علينا أن نفرض أن كل صفحة تحتوي على ألف حرف. لو وضعنا الجينوم في كتاب فإننا نحتاج إلى كتاب من 3 ملايين صفحة، ولو فرضنا أن كل 100 صفحة تحتاج إلى سنتم واحد، فإننا بحاجة إلى كتاب سمكه 300 م! عدد الجينات «الكلمات» التي يحتويها الجينوم البشري تتعدى المئة ألف. تختلف صفات الإنسان حسب اختلاف ترتيب هذه الحروف ومن ثم تكوين الكلمات؛ كل مجموعة من الكلمات تُكوّن قصة فريدة اسمها الإنسان.
نعود إلى صلب الموضوع وهو أنه من المؤكد يحمل الإنسان جينات تشعره بالمسؤولية؛ حينها ترى هذا الشخص مسؤولا منذ نعومة أظافره - هناك من يكون مسؤولا عن نفسه وهناك من تطال مسؤوليته الآخرين. هذا النوع من الإنسان يتعب كثيرا في حياته مصداقا للآية الافتتاحية المباركة «باعتبار أن الإنسانية تعني التفكير السليم لا التكوين القويم» فما أن تطأ رِجْلُ هذا الطفل المدرسة وإلا أتت المسؤوليات تباعا؛ واجبات، حفظ، مذاكرة، انضباط... الخ. يكبر هذا الفرد وتكبر المسؤولية معه ويريح أهله كثيرا لأنه يتولى مسؤولية نفسه ولا يحتاج إلا للتوجيه فقط في أكثر الأحيان. ما إن يتم هذا الإنسان دراسته الأكاديمية ويبدأ عمله حتى يبدأ مشوار جديد مع الوظيفة والعائلة فينشغل بهما ولا يشغل بهما غيره. يكبر فتكبر أولاده ويصلون سن المراهقة ويعاني معهم ما يعاني. يرشدهم ويعاني ويضنى لأجلهم وما إن يرشدوا ويسلكوا الطريق حتى يكهل والداه ويبدأ معاناة التربية والمسؤولية من جديد. يغمض ويفتح عينيه فإذا به كهل بحاجة إلى رعاية من ذويه، وهكذا يقضي المسؤول حياته؛ في كد وكبد إلى أن يلقى الله، لكن عندما يرحل هذا الإنسان يترك وراءه بصمات لا تمحى وذلك على عكس من لم يهتم بالمسؤولية يوما ما.
علميا، أي إنسان يحمل تقريبا كل الصفات البشرية التي تنتقل من جيل إلى آخر، وعلى الإنسان الواعي أن يدرب نفسه وأهله ويكشط الصديد الذي يعلو بعض هذه الجينات ليتكون إنسانا مؤثِّرا ونافعا لنفسه ولغيره. هذه الصفات موجودة وعلى كل منا البحث عنها وشحذها وتدريبها وحثها على العطاء لأن أمتنا بحاجة لأمثال هؤلاء المعاطئيين المُؤْثِرِين الذين يبنون أجيالا ويرصّون علوما ومن ثم يؤسسون لحضارات عالمية يشار لها بالبنان. علينا أن نبدأ جميعا خصوصا مع صغار السن لإن جيناتهم بحاجة إلى استفزاز وفرز وغربلة من الصغر لكي لا يعلوها الصدأ في الكبر ولكي تطغى الصفات الحميدة على غيرها.