بثينة اليتيم: أن تكتب يعني أن تكون الغريزة في قلبك والإبرة في عقلك
لم يكن فوزها مفاجئا في دورة بيت الشعر بالدمام، فقد حققت حضورا جيدا قبل ذلك بأعوام في أمسيات متعددة، تحققت أمنيتها وطبع ديوانها في كانون الأول «ديسمبر» من العام 2017، تلك هي الشاعرة اليتيم التي تقول في حوار مع «الحياة» إن النسيان حضور آخر أكثر كثافة، وإنها ليست منساقة لوهم المنجز الشخصي». وتشير اليتيم إلى أن الشعر مقاربة لمعنى أن تكون في الوجود، وتقول أيضا إن الخطأ هو كمالنا وفق تكويننا الإنساني، وهو صواب فطرتنا. وتؤكد: «نحن عابرو الحياة، نحن الغائبون، بينما الأموات في عتمتهم النبيلة بانتظارنا». إلى نص الحوار:
يتكرر عنوان النصوص الى 20 مرة من مكيدة في الرأس إلى مكيدة القدر. ما الذي يشغل ذهن الشاعرة ويقلقها لتتشكل هذه العناوين في ديوانها البكر؟!
على نحو مختصر «سأعيد للقدر مكيدته» هو سقوط نهاريٌّ فاضح.. فعل للوح مرايا شاسع، عليه انعكاسات الحياة في عبورها، هكذا هو في العديد من صوره المتحطمة، وحين تقفُ على متاهاته الشعورية مجموعة سخية بقلقها، بهلعها، ولكنها تحتفظ بإشارة مرجعية للقارئ هي صورة لغياب الأب وعذابات الأم.
في نص «مكيدة العتمة» تتحدثين عن غياب الأب وتشاطرينه عتمة غيابه النبيلة. هل البشر قادرون أن يتجددوا بالنسيان وإلى أي حد ممكن تقبل غياب من نحب عن حياتنا؟
النسيان حضور آخر أكثر كثافة، أنت حين تنسى.. تهذبك النقائص، تشغلك نقيصة ما نسيت، وما فقدت، يشغلك النسيان دوماً باستحضار ما غاب عنك ما ليس معك، لذا «الغياب» بمعنى من معانيه هو حضور، حضور لا ننجو منه حقيقة.. نحن عابرو الحياة، نحن الغائبون، بينما الأموات في عتمتهم النبيلة بانتظارنا.
«مكيدة الحواس» أطول نصوص الديوان وغني بالصور الجميلة. أي بهاء للبصر الأول، وأي منزلق للمرآة في ضوئها وجلال الصورة. هل أخطاؤنا الرهيفة ألذ وعصية على النسيان؟!
مكيدة الحواس «الحب» والصورة الأولى، والبهاء المتخيل في رمزيته، ليس سوى خطاب بصري ينقسم بفوضاه الجميلة على حواسنا جميعها، فيكون له هذا البيان. حَذرِون نحن من مفردة «الخطأ»، نحمّلها إصر الذنب الجارف لجمالية الروح، والتي تعصف بنا إلى منحدراتها الخطأ، مكوننا الجميل، نحن نتكامل بأخطائنا، نبني ذواتنا، نتّسع غير معنيين بحدود معرفية للصواب، هو موشور نتعدد به إلى صفات لونية مختلفة، ليس بالضرورة أن يكون هاوية.
أنا أرى أن هذه الأخطاء تنصفني، تجعلني في برهتها أشعر بي وكأنني جثة، مستسلمة، تطفو في حيز وجودها.
تحضر الأم في نصك لتكون بوصلة للأشياء كلها. هل هي تمثل السفينة الآمنة أم هو الحنين للأم كلما كبرنا أخذتنا طفولتنا إليها؟
يبتدئ وجودنا الإنساني في رحم الأم، فهي رسم الله الأعظم، أراها بصورٍ عدة حتى عباءتُها احتجابُ ليل وغبن، وكشفها نهار، هي اصطفاء القول التام، وتألّق القدرة الإلهية على الأرض، نعم هي بوصلة كل الأشياء.
«تغرفين من الموروث وتجددينه» في قولك «موتك انتباه دائم لا يرقد في قبر». لقد جاء ذلك من الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا؟! هل تدعمين هذا التوجه ثقافيا؟
هذا العبور الرقيق لمن نحب ما بين موتنا المفجع ويقظتهم هو الحرية المطلقة، هذا الانتباه الدائم الذي يهينون به الوقت ويوقظون به كل الأشياء هو إرثنا، مطعونون نحن بذات الخنجر بين غيابهم وتجليهم الحاضر دوما.
فلتكن شجاعا وتخاطر، فلا يمكن استبدال الخبرة بأي شيء آخر «باولو كويلو» هل تعتبري إصدارك الأول مغامرة وما الصدى الثقافي والنقدي حيال منجزك وفوزك بجائزة بيت الشعر للكتاب الأول؟
لست منساقةً لِوَهم المنجز الشخصيّ، ولا أعتبره مغامرة، هو فقط محاولة ومقاربة لمعنى أن تكون في شيء الوجود، وما الشعر إلا اشتقاق أو تصريف آخر لهذا الوجود.
النثر يتحدث، أما الشِّعرُ فيغني «فرانز غريلبارتسر» ما هو الشعر برأي شاعرتنا اليتيم وهل تنتصر للون على لون ولأيها تنحاز؟
الكتابة استدراج لحضورنا الإنساني، أن تكتب يعني أن تكون الغرزة في قلبك والإبرة في عقلك، هكذا هو ذعر الكتابة، تحتضر الفكرة في ذهن الكاتب فيستنطقها للمغفرة، ثم يُجهِز عليها، بأن يلوي عنقها في قصيدة. وهكذا هو مثول الحدث في ابتداء مسّه الكتابي، ونُبل عبوره في شقائه المتعدد، الكتابة ضجيج، توهّج لحضورنا الخافت، زعم المرئي لما لا يرى. ببصيرة الشعر وحدها أعرفني وأعرف الجميع منفلتاً من ماهيته الثقيلة.
مرّ عام كامل على منجزك الشعري الأول؛ هل من جديد يتشكل ومن من الشعراء السعوديين يستهوون ذائقتك وكيف تقرأين التجربة الشعرية الحديثة في الساحة السعودية؟
إن المشهد الشعري الحديث ليس سوى امتدادٌ لمشهدٍ شعري في زمن سابق، مع فارق معطيات بيئة وأحداث كل جيل وتأثيراتها على نصوصهم الشعرية، فلكل جيل شبابه المتوجّس، هذا الجيل منكوب بتبعيّته للهويات المتصارعة،
منكوب أيضا بالصمت حيال القضايا السياسية لاعتبارات عدة، لهذا أرى أنه حمل خيبة هذا الأمر وخذلانه للقضايا برمتها، وخجله من صمته إلى تصريف آخر وجهة أخرى، واشتغالات أكثر ذاتية في النص، فصار يحلّق في سماء أناه ويهبط على أرضها، ويلتقي ذاته حين لا يكونها ويرصدها في أنا أخرى، ثم في برهة صحو يضيق بها، فنراه قاسياً جدا في وصفيّاته لها، وإن كان لتلك القسوة ما يبررها، هذا الجيل أصعب في مشاكسة أخيلته وأسئلته وقلقه الوجودي، وأكثر جرأة في مغامراته وأكثر بؤسا في متاهات وعلل الأشياء، لكن أيضاً في أحيان كثيرة هو منساق لوهم الثقافة والمنجز الشخصي. هناك أسماء محلية كثيرة تستهوي ذائقتي: محمد الماجد، أحمد القطان، علي سباع، وغيرهم كثير.
كل فن يحمل نوراً إلى الآخر. فولتير؛ ما رأيك بتداخل الفنون وهل تثري التجارب وتدخلها متعة التلقي بينها؟
لا يمكن هندسة فنٍّ بأبعاده وزواياه إلا ويكون أحد أضلاعه فن آخر، كل فنٍّ يستعير من الآخر وجهه، حواسه، فتنته.
لِمَ نجعل من الكلمة مثلا منفية في قصيدة فقط؟! بينما نستطيع أن نستنطق صمتها في صورة أو لون.
الأخطاء هي التي رَبَّت الإنسان «فريدريش نيتشه» برأي شاعرتنا ما الذي يعيدنا لبوصلتنا، وهل الأخطاء ملمس حقيقي لجس إنسانيتنا تجاه الإنسان والحياة؟
يقول سليم بركات: «لن أحمل الشيطان شيئا إنه شريك في الخلق». الخطأ هو كمالنا وفق تكويننا الإنساني، هو صواب فطرتنا، أنا أقتنص براعة وعيي حين أُخطئ ثم أجتهد بعدها في الحد من نزف قَدَمَيّ حينما أمشي على سلك حاد وهو خياري الوحيد.