ماذا لو نضب الماء؟
الإنسان وهو يجري مع إيقاع الحياة السريع قد لا يلتفت إلى كثير من النعم التي يتقلب فيها، لاعتياده عليها، فكأنه يحسبها من حيث لا يشعر معطى ثابتا غير قابل للتبديل والتغيير، وإن كان عقله يؤمن بعكس ذلك، ولكنه في واقعه العملي يقوم بما يتضادّ مع تلك القناعة العقلية.
لا يوجد على وجه الأرض إنسان لا يؤمن بحقيقة الموت، ولكن قد يتصرف الإنسان في حياته تصرف الخالد فيها، بل قد يذهب تفكيره إلى أبعد من ذلك حين يظن بأن المال الذي انشغل به واستغرق فيه هو سبب لخلوده: «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ». وجاء التعبير بصيغة الماضي في «أَخْلَدَهُ» بدلا من صيغة المستقبل للكشف عن رسوخ يقينه بأن خلوده قد حصل وثبت.
كثير منا لا ينتبه مثلا لنعمة الصحة ما دامت تصحبه، ولا لنعمة الأمن ما لم تفارقه، ولا لنعمة الوفرة ما بقي في ظلالها، ولا لغيرها من النعم الأخرى التي لا نستطيع لها حصرا وإحصاء. فالإنسان بشكل عام يظل غافلا عنها حتى يأتيه منبه خارجي يوقظه ويشعره بأهميتها ودورها في استقرار حياته واستمرارها.
في آيات كثيرة تحدث القرآن عن واحدة من أعظم النعم الإلهية على الإنسان، بل على كل الكائنات الحية، وهي نعمة الماء. تحدث عن إنزال الماء من السماء، وعن إسكانه الأرض وحفظه في مستودعاتها التي أعدها الله، وعن الأنهار والبحار والعيون، كل ذلك تنبيها للإنسان لأن يلتفت لهذه النعمة، ومن ثم إلى مكونها وخالقها.
يقول تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ. فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» ويقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» ويقول: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ».
فالإنسان ليس له يد في إنزال الماء، وفي إسكانه في الأرض التي هيأها الله لذلك تهيئة يعلمها المختصون من الجيولوجيين، وفي تخزينه وحفظه. ولكنه، أي الإنسان، في خضم زحمة الحياة ومشاغلها قد لا يعِير هذه النعمة طرْفا برغم أنها مادة الحياة: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ».
لذا فإن الباري عز وجل يحذر الإنسان من الاستمرار في هذه الغفلة، لأنه تعالى قادر على سلب الماء قابليته للشرب أو تغييبه تماما. يقول تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ» ويقول: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» ويقول: «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ».
هل يمكن أن نتصور الحياة بدون ماء؟!
الجواب أتركه لكم، والعالم كله يمر بوقت عصيب نتيجة جائحة فايروس كورونا أو ما يعرف علميا ب «كوفيد 19» الذي أحدث تغييرا هائلا في الأنماط السلوكية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على مستوى الأرض كلها، ولا ندري بعدُ ما سيكون بعده من آثار وارتدادات. لقد كشف هذا المخلوق المتناهي في الصغر مدى هشاشة عظام الحضارة التي نعيشها، وأن الإنسان رغم إنجازاته العلمية والمادية العظيمة لا يزال طفلا يحبو، يحتاج للمزيد من التواضع ليتعلم ويتعلم ويتعلم، وليدرك حاجته إلى خالقه وبارئه، وليبتعد أكثر عن «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» ليقترب من ربه، فيعمر الأرض، ويكون الإنسان الإنسان.