دعْ أفعالك تتكلم
قد يلقي أحدهم عشرات الخطب العصماء في الحث على مكارم الأخلاق، فتؤثر بعض الأثر المحدود الذي قد لا يستمر طويلا؛ ولكنه بموقف واحد أخلاقي عملي منه قد يقول ببلاغة الفعل ما لم يستطع قوله في تلك الخطب كلها، فيحدث في النفوس أكبر الأثر، ويظل الموقف محفورا في الذاكرة الجمعية ينتقل من جيل لآخر. لذا نجد الخطاب القرآني يوبّخ المؤمنين الذين يتخلف فعلهم عن قولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ». وفي سياق الذم لبعض الشعراء يقول: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ».
حين تتكلم الأفعال تصل رسالتها دون استئذان، ولا تخطئ في إصابة مرماها. هذا ما قام به نبي الله يوسف ، إذ كانت أفعاله خير ترجمان لشخصيته؛ من خلالها عرفه كل من التقى به.
في السجن اكتشف صاحباه أنه ذو شخصية مختلفة متميزة تمام التميز عن غيرها، فرجعا إليه لتأويل رؤياهما، رغم كونهما على غير دينه، معللين ذلك بقولهم: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ». وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق بيان ما كان يمارسه في السجن، إذ قال: «كان يقوم على المريض، ويلتمس المحتاج، ويوسّع على المحبوس».
أما النسوة اللاتي راودنه عن نفسه، فقد شهدنَ له شهادة حسية عن خبرة ودراية، منزِّهات إياه غاية التنزيه، متعجبات أشدّ التعجب من بلوغه الغاية في العفة، قائلات: «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ»، فالتعجب الشديد مستفاد من قولهن: «حاشَ لِلَّهِ» كما قلن نفس الكلمة من قبل في حالة ذهول وتعجب من جماله: «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ»، وأما غاية النزاهة والطهارة فمستفادة من النكرة في سياق النفي التي تدل على العموم، أي نفي كل سوء عنه .
أما امرأة العزيز التي كانت السبب وراء حبسه في السجن بضع سنين، فإنها تحدثت في لحظة يقظة ضمير عن كونه من المنتمين إلى طائفة عالية المقام أمَر الله المؤمنين بالكون معهم دائما، إذ قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» وذلك حين قالت في خطاب مؤكد بأكثر من أداة: «أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ». وهذه الصفة خاطبه بها من قبل الذي نجا من السجينين، حين جاءه يسأله عن رؤيا الملك، فبدأ كلامه بقوله: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ». والصِّدِّيقُ هو البليغ في الصدق، وصفه بذلك بعد أن خبَر حاله.
أما ملك مصر الذي عرف نزاهته وعفته، ورأى صدقه في تفسير الرؤيا، وخطته المقترحة لمواجهة السنين العجاف وإدارة الأمور، ولمس حرصه على مصالح الناس رغم كونه سجينا، فلم يملك إلا أن يعبر عن رغبته الأكيدة في جعله خالصا له قريبا منه أشد القرب، مانحا له صلاحيات واسعة جدا، فقال: «ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ».
أما إخوته الذين كادوا له كيدا، فإنهم توسلوا إليه بما رأوه فيه من الإحسان، وهم لم يعرفوا أنه يوسف بعد، وذلك حين «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ». بل إنه أخذ إقرارهم وشهادتهم الحسية على كونه يوفي الكيل ولا يبخس أحدا حقه، وأنه خير من يحسن ضيافة الضيف: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
هكذا تكلمت أفعال نبي الله يوسف فأثّرت في النفوس آثارها الإيجابية البليغة، وهكذا ينبغي أن نترك أفعالنا الجميلة تحكي عمّن نكون.