أترك أثرا ً قبل الغياب والرحيل «10»
المحور الثالث: السجايا الخُلقية للمرء:
الحادي عشر: فضيلة العغو:
العفو: المحوُ والطمس، والمراد منه التجاوز عن الذنب وتركُ العقاب عليه، أو إسقاط الحق «1»، وورد أن ”كل مَن استحقَّ عقوبةً فتركتَه، فقد عفوتَ عنه“ «2»، والصفح أبلغُ من العفو، وهو ترك التأنيب والتثريب، وصفَحت عنه أوليته مني صفحةً جميلةً، معرضًا عن ذنبه بالكلية «3».
العفو والصفح عند المقدرة من الأخلاق الإسلامية التي حث عليها القرآن الكريم والنبي محمد وأهل بيته الأطهار بأسلوب ساحر في البيان ورائع في إيصال المعاني إلى حيث تستقرّ في القلوب وتتمكّن منها لتترجم فيما بعد سلوكاً عملياً، وبناءً نفسياً عاطفياً نابعاً من العقل والشرع معاً.
ويعتبر العفو والصفح عند المقدرة من أروع الصفات التي يجب أن يتحلى بها المرء ولاسيما المؤمن، وهي من الأسماء والصفات الإلهية والتي يحبها الله عزوجل وأمر بها، ولما للعفو والصفح عند المقدرة من أهميه بالغة، فقد دعى الشارع المقدس الناس إليها وأعتبرها سبباً رئيساً في إستقرار المجتمعات والعلاقات الإجتماعية «الأسرية/الزوجية/ الأخوية/ الصداقات والخ» وثباتها، وركناً في الإصلاح البشري والتعايش السلمي.
قال الله عزوجل ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ «سورة الأعراف - آية 199»، وقوله عزوجل﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ «سورة البقرة - آية 237»، وقوله عزوجل ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ «سورة النور - آية 23، وقوله عزوجل ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ «سورة آل عمران - آية 134».
وبهذه الكلمات البسيطة في شكلها العميقة في مضمونها يختصر القرآن الكريم الحل لجميع المشاكل الاجتماعية والحروب السياسية التي تعصف بالعالم الإسلامي وبالبشربة وتهد من بنيته وتفكك من وحدته وقوته، إنه العفو والصفح عند المقدرة، وقد يظن كثيراً من الناس أن العفو والتجاوز عند المقدرة يقتضي الضعف والذلة، فيبادر إلى الإنتقام بمجرد أن يؤذيه أحد، بل ينبغي النظر إلى مثل هذه الأمور بعين التسامح والصفح واللين بدل الشدة والصرامة والحزم وليس فخراً للإنسان أن يتحفز للإنتقام لدى أقل إهانة أو احتقار عن قصد أو غير قصد وقد يستمر ذلك لعشرات السنين المليئة بالنفسية المريضة الضيقة الأفق.
فالعفو والصفح سمة من أرقى السمات الأخلاقية وأكثرها أهمية فهي تعني إفراغ القلب من الضغائن والأحقاد وملئه بالحب والمودة ومقابلة من أساء إلينا بالعفو والصفح والمغفرة وهي لا تتأتى للشخص المؤمن إلا بعد جهد جهيد وعناء شديد في مجال التربية الروحية والنفسية، إذ ينبغي للإنسان أن يكون صدره كالبحر.. يسع الجميع ويحتوي الجميع.
عن الإمام عليّ قال: ”شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل“ «4»، وقال رسول الله : ”تعافوا تسقط الضغائن بينكم“ «5»، قال رسول الله : ”عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يُعزّكم الله“، وعنه ”ولا تحسبوا أن العفو عن الآخرين فيه ذلٌّ لكم“ «6»، ويوصينا الإمام الصادق ”اعف عمّن ظلمك كما إنّك تُحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك“ «7»، قال الإمام علي «العفو تاج المكارم» «8»، وقال رسول الله «إذا أوقف العباد نادى مناد: ليقم من أجره على الله وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس» «9»، قلّة العفو أقبح العيوب والتسرُّع إلى الانتقام، عن علي «تعافوا تسقط الضغائن بينكم» «10».
وفي تاريخنا الإسلامي حكمة بالغة في مجال العفو والصفح عن الآخرين فهاهو رسول الله الذي قاسى الكثير من قريش بقتل أصحابه وتعذيبهم وهو القائل ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ومع ذلك ما أن فتح مكة واجتمع أهلها صدح بأعلى صوته ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وأبن أخ كريم، فقال: أذهبوا فأنتم الطلقاء.
ليشيد بكلماته تلك مثلاً أعلى على العفو والنبل ومقابلة الإساءة بالحسنة، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى مثل هذا الخلق العظيم أن يسود بيننا كي نطرد درن الحقد والبغضاء من نفوسنا.
وهاها نحن مقبلون على سيدة الليالي وهي ليلة القدر، التي يفرق فيها كل أمر حكيم وتقدر فيها أمور العباد، فعلينا أن نعفو ونصفح عن الآخرين ونتجاوز عن خطاياهم، حتى يعفو الله عزوجل عنا ويكتبنا من الفائزين برضاه ومحبته، ويمحوا عنا سيئاتنا ويغفر ذنوبنا، فعن علي «أعطي الناس من عفوك وصفحك مثل ما تحب أن يع…