عبدالله الرضيع.. ومقام التسليم للشهادة
من المقامات العالية والرفيعة في التوحيد والإيمان هو البلوغ الى القلب السليم وإلى مرحلة التسليم لله عز وجل. ولا يكون التسليم إلا بتسليم القلب لخالقه، فلا يكون فيه سواه. وإذا ما أسلم القلب لله، بلا أغيار ولا أنداد، أصبح وجه الإنسان إلى الله، وأصبح كل ما يقوم به الإنسان من عمل أو ترك هو في سبيل الله، وأصبحت حياة الإنسان ومماته لله عز وجل.
فالقلب هو المسجد لذكر الله، ولا يمكن إعمار المسجد بذكر الله إذا كان هناك أصنام تعبد في ذلك المسجد، أو كان المسجد مليئاً بالأوساخ والقاذورات والنجاسات، ولم يكن طاهراً للذكر. كذلك القلب يجب إزالة الأغيار عنه، وتحطيم جميع الأصنام التي تشغل القلب عن ذكر الله، وإزالة الرّين وكدورات الذنوب وتطهير القلب لكي يشرق نور الحق، ويصبح القلب مناسبا لتجلّي الأسماء الإلهية، وإشراق النور، ويسمح للقلب بذكر اسم الله.
فالتسليم هو أن يصبح القلب بيتاً للمحبوب ليس فيه سواه، وإعطاء البيت لخالقه. وإزالة جميع الأغيار عن ساحة المحبوب. فالمحبوب والخالق الذي أعطى كل شيء، لا يرضى بالشريك، فلا محبوب في القلب سواه.
ولا يكون التسليم إلا بتزكية الروح، وتحطيم جميع الأصنام عن ساحة القلب، وإذا ما تطهر البيت عن الهوى وعن الأغيار، أشرق نور الله عز وجل في قلب المؤمن، «قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى» وأصبح القلب محلّاً لذكر الله وتسبيحه وتنزيهه وتقديسه «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ».
ينتقل الإنسان السالك من الصبر إلى التسليم، ومن التسليم إلى العشق، وعندما يصبح الإنسان عاشقاً للمحبوب فإنه يأنس بما يستوحش به غيره، ويستوحش مما يستأنس به أهل الدنيا. فمن توقّدت في قلبه نار العشق، فإن قراره لا يقر إلا بالقرب من المحبوب، كالفراش الذي لا يستقر له قرار نتيجة عشقه للنور، ولا يزال يطوف حول نار المعشوق حتى يسقط ويحترق بنارعشق المحبوب، فلا يلتفت لغيره، بل يتخلص من كلّ شيء إلا المحبوب. ومهما حصل عليه من لطائف الأنوار أزداد شوقاً وولهاً إلى المحبوب، إلى أن يعشق الشهادة في سبيله شوقاً إليه كما حال الإمام الحسين .
إبراهيم ومقام التسليم
تذكر آيات القرآن أن إبراهيم كان مثالاً للتسليم لله، «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». وهنا القول ليس لقلقةً باللسان، بل إيمانا وتسليما للقلب والجوارح. فلقد أتى الله بقلب سليم، وليس فيه سواه. ومقام التسليم للقلب وصل بالنبي إبراهيم أن يصبح إماماً للناس، وكذلك أن يصبح خليلاً لله عز وجل. وللوصول إلى هذا المقام العالي تم إيتلاء إبراهيم بعدت إبتلاءات، ونجح في هذه الابتلاءات والاختبارات.
لقد ابتلي إبراهيم في تسليمه لله عندما ألقي في النار. فلقد أبتلي بإلقائه في النار بعد أنّ حطّم أصنام نمرود. فلمّا أجمعوا على إلقائه في النار، أسلم أمره لإرادة الله، ولم يضجر أو يخنع أو يتوسل غير الله، أو يتنازل عن موقفه، بل أسلم وجهه للمحبوب، فكلّ ما يأتي من المحبوب، هو محبوب. فجعل المولى عز وجل النار برداً عليه وسلاما «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ». فكان مسلّماً لإرادة الله، ولم يدعو حتى بتغيير الأمر الإلهي، وهذا غاية التسليم لله، فأنجاه الله، وجعل النار عليه برداً وسلاما.
فيجب على الإنسان السالك أن لا يكتفي بتحطيم الأصنام المادية، ولا يقدم لها أي لون من ألوان العبادة، بل عليه العودة إلى ساحة القلب وتحطيم كل صنم موجود فيه، وتطهير القلب ليصل إلى التسليم والتوحيد الخالص.
تسليم إسماعيل شرطاً لقبول القربان
وفي الاختبار الثاني عندما رأى في المنام أنه يذبح إبنه إسماعيل، وهنا الرؤيا بمعنى الأمر. عندما أمر الله عز وجل خليله إبراهيم بذبح إبنه، كان ابتلاءاً وتمحيصاً لإبراهيم وإسماعيل لمقام التسليم. فتنفيذ الأمر الإلهي يستوجب أن يصل الإنسان إلى مقام التسليم التام لله عز وجل. فتسليم القلب لله عز وجل، يستتبع تنفيذ الإرادة الإلهية بلا تردد وبلا إعتراض، ولا حتى إشكال أو استفسار عن غاية الأمر. فكل ما يأتي من المحبوب هو محبوب. والقلب حرم الله، ولا طاعة للنفس أو للهوى فيه، ولا وجود لأي صنم لهما في ساحة القلب. «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103﴾ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ﴿106﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»
وبعد أن رأى إبراهيم الرؤيا، قال لابنه إسماعيل أنه يرى أن يذبحه تنفيذا للأمر الإلهي. لقد أعطى النبي إبراهيم ابنه الخيار في قبول الذبح أو رفضه، ولم يجبره على ذلك. فتقديم القربان لله عز وجل يحتاج للرضا والتسليم القلبي حتى يتم قبول القربان. فلا يمكن أن يقدّم إبراهيم ابنه إسماعيل كقربان إذا لم يكن إسماعيل مسلّما أمره لله، ويريد أن يذبح في سبيل الله. وهنا الإبتلاء على إبراهيم أعظم، لأنه لا يقدم نفسه، بل يقدم إبنه ذبيحاً لله، ويتم ذبحه على يديه.
لقد وصل إسماعيل الى مقام التسليم، وسلم للأمر الإلهي «قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ». فلقد وصل إسماعيل لمقام تسليم القلب لله، وسلّم نفسه للشهادة والذبح بين يدي أبيه قرباناً لله. كان هذا البلاء عظيماً حيث أن إبراهيم رمى الشيطان في ثلاث مواقع، حتى حزم أمره بذبح ابنه. فجائه النداء الإلهي أن قد صدقت الرؤيا، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم.
الإمام الحسين وتمحيص أصحابه
إن التقدم للشهادة بين يدي الإمام الحسين لا يستوجب فقط تسليم الإمام، بل يستوجب تسليم الأنصار أيضاً. فلا يمكن قبول القربان الإلهي إذا كان القربان مغتصباً، أو كان قلب الإنسان غير مسلما لله. وإذا كان الشخص غير مستعداّ للشهادة، ولم يكن مسلّما القلب لله، فإنه لا يمكن للإمام أن يقدمه بين يديه.
لذلك كان الإمام الحسين يمحّص أصحابه ويختبرهم ويمتحن قلوبهم، حتى يطمئن لتسليمهم للشهادة في سبيل الله ودونه، فيكونوا مناسبين للقبول الإلهي، ويصلوا إلى رفيع الدرجات. فلا يمكن أن يأمر الإمام إنساناً أن يستشهد بين يديه، إذا كان الإنسان رافضاً للشهادة، ولم يسلّم قلبه، أو كان غير مناسباً للقبول الإلهي. فكان الامام الحسين يمحّص أنصاره، فلا يقدم أحد إلا لمعرفته باخلاصه وصدقه وتسليمه لله، ثمّ يأذن له بالشهادة.
لذلك عندما قال الإمام الحسين للقاسم ابن الحسن كيف تجد طعم الموت عندك، فقال له أحلى من العسل في سبيلك. بعدها أذن الإمام للقاسم بالتقدم والاستشهاد بين يديه. فالإمام يأخذ بأيدي بنيه وقراباته وأصحابه إلى رفيع الدرجات.
عبدالله الرضيع ومقام التسليم للشهادة
لقد وصل الإثنان، إبراهيم وإسماعيل، إلى مقام التسليم «فلما أسلما وتلّه للجبين». فالإثنين، الأب وابنه وصلا إلى مرحلة تسليم القلب للمولى عز وجل، وسلّما للأمر الإلهي. وفي ذلك الموقف الحرج والبلاء العظيم فدى الله إسماعيل بذبح عظيم. وكان ذلك الذبح هو الإمام الحسين وابنه الرضيع. فعندما كان الإمام الحسين وحيداً فريدا ينادي ألا من ناصرٍ ينصرنا لوجه الله، ألا من ذاب يذب عن حرم الله، طلب الإمام بابنه عبدالله الرضيع ليقدمه ذبيحاً بين يديه، وقرباناً عظيما لله.
لقد علم الإمام بعلمه اللدني وصول عبدالله إلى مقام التسليم لله عز وجل، واستعداده للشهادة، بل علم بطلب عبدالله الرضيع للشهادة بين يديه بصراخه وعويله وشوقه إلى أبيه. فالتقديم للشهادة لابد من تسليم الإثنين الأب وابنه. فلو لم يصل عبدالله الرضيع إلى مقام التسليم، لما قدمه الإمام للشهادة. إنها لحظات قصيرة ولكنها عظيمة في الميزان. يحمل الإمام إبنه يناغيه، ويستبشر الطفل بأبيه، يُعد الإمام إبنه للشهادة، ويخرج به من الخيام. نظرات الطفل العاشق لإمامه لا تفارق أباه، وقلب الأب متعلّق بجنينه المحبوب. وعندما أسلما، رفع المولى الحسين ابنه عبدالله الرضيع بين يدي الله قرباناً لاستقبال السهام المسمومة. عبدالله الرضيع لا يحسن القتال، ولا يستطيع حمل السيف ليقاتل بين يدي أبيه. وكذلك عبدالله الرضيع لا يستطيع النطق والكلام ليخطب في القوم وينهاهم عن قتل أبيه. ولكن الإمام أخذ بيده، رغم ضعفه وفقره، إلى الدرجات العالية والمقامات الرفيعة. وكذلك صاحب الزمان يصنع بالمؤمنين الصادقين.
لم يملك عبدالله الرضيع إلا نحره الرقيق ليقدمه فداءاّ لأبيه ويستقبل به السهم المثلث المسموم ويستشهد على صدره. فعبدالله الرضيع رغم أنه لا يملك أي مقومات للدفاع عن نفسه، ولا يملك القتال أو حتى الخطاب، قدّم رقبته الزكية للشهادة، فكان خطابه هو الأفصح بلا كلام، وقتاله هو الأمضى بلا سيف، وحجته الأبلغ في الخصام مع القوم.