عبدالله «15» الأخيرة
ساد الصمت أرجاء الورشة...
كنت أنظر لذلك الموظف الباكستاني وأحدث نفسي ما الذي عملته لك حتى تقوم بهذا العمل الجبان؟!
لا أعلم ما الذي كتبه في التقرير هل أضاف معلومات خاطئة عن حالتي.. لا أعلم..
بقيت مكاني متجمداً حتى وصل إيان جمس وأخذني خارج الورشة.. كانت لحظات مؤلمة.. خرجت معه وكنت أشعر أن هناك انفجار قد يحدث... كانت ملامح وجهه توحي بذلك...
بدأ إيان جمس يسألني هل أنت مريض بالسكري؟
اجبته نعم..
ولماذا لم تخبرني بذلك قبل التوظيف؟
أجبته أنت لم تسألني
بدأ ينفعل وبدأت نبرة صوته ترتفع.. هل الشركة عندها علم بإصابتك بالسكري؟
أجبته نعم..
قال غاضبا كيف ذلك؟!
أجبته عندما حضرت إلى هنا ملأت نموذج التوظيف وبياناتي وكان ضمن الفقرات «الحالة الصحية».. كتبت أنا مريض بالسكري.. فلم أكذب عليكم..
سألني غاضبا من الموظف الذي قابلك في الموارد البشرية؟
أجبته موظفة أظن أن اسمها ياسمين..
اتصل بالموظفة ياسمين وسألها هل عبدالله السعودي مصاب بالسكري وهل عندكم تقرير طبي؟!
أجابته ياسمين نعم.. لقد أحضر تقريراً طبيا يثبت حالته الصحية وقد تم عرضه على إدارة الشركة ولم تعترض على توظيفه..
كان ينظر إليّ والشرر يتطاير من عينيه...
أغلق الهاتف وبدأ يصرخ ويصرخ كان عليك أن تخبرني عندما قابلتك في السعودية..
خرج بعض الموظفين ينظرون ما هذا الصراخ...
كنت أنظر إليه وأتساءل في نفسي لماذا هذا الانفعال. لماذا هذا الصراخ..
سمعته يقول غدا اذهب إلى المستشفى سوف نعمل لك فحصا طبيا شاملا...
أنهى حديثه بقوله ليتني لم أتصل بك..
غادر إيان جمس فيما بقيت مكاني حائرا ماذا أفعل..
جاء أحد الموظفين وأحضر كأس ماء وقال.. تفضل اشرب
نظرت إليه ولم أستطع الكلام.. شعرت بجفاف فمي. فلم أستطع الكلام...
شربت الماء وجلست لحظات..
قال أحد الموظفين لا تقلق يا عبدالله ستكون الأمور على ما يرام..
نظرت إليه وقلت لا أظن ذلك...
عدت للشقة وقد كنت متعبا جدا.. استقبلني الأصدقاء هاني المصري وعبدالله العماني..
قال هاني ما بك يا عبد الله لماذا وجهك أصفر؟!
قال عبدالله العماني ماذا حدث لك يا صديقي..
نظرت إليهما وقلت لقد حدث ما كنت أخشاه..
قال هاني ماذا حدث؟
شرحت لهما ما حدث لي في الورشة مع إيان جمس..
قال عبدالله العماني اهدأ يا صديقي واذهب واستحم وارتح قليلا وسوف نذهب لتناول العشاء في الخارج.. لا تقلق نحن معك..
بعد الاستحمام خرجنا للعشاء.. بدأ عبدالله العماني يشرح توقعاته..
أظن يا صديقي أن الباكستاني قد اضاف على السكري أمراض أخرى أو مضاعفات أخرى.. ربما كتب لو أن الموظف أصيب بغيبوبة السكر وهو في مقر العمل فستكون الشركة هي المسؤولة عن الإصابة وربما تكون هناك تعويضات مالية..
وهذا ما جعل إيان يحضر بسرعة البرق وينفجر كالبركان لأنه هو المسؤول عن توظيفك وهذا يعني أنه قد عرض الشركة لهذه الخسارة...
قلت غدا سأذهب للمستشفى وسأقوم بفحص طبي شامل...
صمت عبدالله العماني وقال.. عليك أن تهدأ ولا تقلق.. ستكون امورك إلى خير إن شاء الله..
في اليوم الثاني عدت للشركة بعد أن ذهبت للمستشفى وقد عملت الفحص الشامل..
استقبلني موظف نرويجي مع زوجته اسكوتلندية وكانا متعاطفان معي قال الموظف إنني آسف جدا لما حدث معك يوم أمس ولكن يجب عليك أن تذهب للموارد البشرية وترفع عليه شكوى... هذا حقك..
نظرت إليه وقلت وهل ستنفعني هذه الشكوى؟!
قال اذا لم تنفعك فأنت قد قمت بواجبك ودافعت عن نفسك..
ذهبت للموارد البشرية وقابلت المدير العام وشرحت له ما حدث يوم أمس وشرحت له حالتي الصحية وأنني قد أحضرت تقريرا طبيا منذ أن باشرت العمل...
قام المدير العام باستدعاء إيان جمس..
حضر إيان وكأنه بركان يوشك أن ينفجر مرة أخرى.
خاطبه المدير لماذا تصرفت مع الموظف عبدالله بهذا الشكل.. كان يجب عليك أن تخبرنا بالمشكلة ونحن نتصرف بما هو مناسب...
نظر إلي إيان وقال لن تنفعك هذه الشكوى وسأقف في وجهك.. لن تترقى.. لن.... لن..
صار يهدد...
قال المدير العام يكفي هذا يا إيان
خرج من المكتب وهو في قمة الغضب..
بقيت لحظات مع المدير..
ثم قال لي يمكنك مواصلة العمل.. لا تقلق...
بدأت الشركة تقلل من مهام العمل.. كنت أشعر أن هناك مفاجأة غير سارة تنتظرني..
كان إيان جمس ينظر إلي وكأنه يقول لن تستمر معنا...
كنت أتواصل مع عائلتي.
أخبرت أخي بما جرى.. وقلت له سأبقى حتى آخر هذا الفيلم سأرى ما سيقوم به إيان.
قلت لأخي لا أزال أتذكر كلماتك وتشجيعك... كنت تقول: ”إن التفاؤل وقت الفشل ذكاء، والثقة بالنفس وقت اليأس قوة، والإصرار رغم المعوقات نجاح بحد ذاته، فالتشاؤم يفضي إلى الضعف، والتفاؤل يقودك إلى القوة، والحياة أمل والأمل قوة، فلا مكان للاستسلام“.
ذات يوم قالت أمي يا ولدي اذا لم تكن مرتاحاً في الشركة فدعهم وتعال إلى بلدك.
قلت لها لن أستسلم يا أمي بهذه السهولة... سأرى النهاية مهما كلف الأمر...
أنهيت المكالمة وقلت أنا على يقين أن ”الحياة رواية جميلة عليك قراءتها حتى النهاية لا تتوقف أبدا عند سطر حزين قد تكون النهاية جميلة“.
**
هاقد اقتربت أيام محرم 1427 كنت أبحث عن مجلس حسيني في دبي.. سألت صديقي سعيد عن ذلك فقال نعم تقام مجالس محرم في حسينية عدواني..
ذهبت معه في أول ليلة وكانت المفاجأة..
هذا الصوت المميز
اعرف صاحب هذا الصوت.. انه الشيخ. نعم هو سماحة الشيخ حسن الصفار.. عندما دخلت الحسينية ورأيت سماحة الشيخ انشرح صدري.. ودمعت عيناي فرحا. ما هذه المفاجأة.. كيف وصل الشيخ إلى هنا.. كم أنا محظوظ. بقيت أستمع للمحاضرة ورجعت بذاكرتي للوراء عندما كان سماحة الشيخ يقرأ في حسينية العوامي بالقطيف وكانت الساحة تمتلئ بالحضور.
عند نهاية المجلس سلمت على سماحة الشيخ..
سألني ماذا تعمل هنا هل أنت في رحلة سياحية؟
أجبته: لا بل في رحلة عمل مع شركة بترول...
شعرت أن أحدهم يربت على كتفي. نظرت خلفي فإذا بي أرى مجموعة من الأصدقاء كانوا مرافقين للشيخ الصفار.
كانت مفاجأة رائعة أزالت عني تلك الهموم..
بقيت أحضر ليليا وأستمع للمحاضرات القيمة التي كان يلقيها سماحة الشيخ الصفار
ذات ليلة قال لي الأصدقاء هل تذهب معنا للحسينية الكربلائية سيكون هناك لقاء مع سماحة الشيخ. اعتذرت منهم بسبب ارتباطي بالعمل..
وهكذا عشت أجواء محرم...
بدأت الشركة تمارس معي دور الموظف المهمش. فلا مهام ولا عمل..
حتى جاء ذلك اليوم الذي استدعاني فيه المدير العام...
لا أخفي عليكم لم أكن متشائما. كنت أعيش بعض الأمل. كنت أظن أن هناك أمل. ربما تتحول وظيفتي إلى إداري. ربما يتم نقلي للسعودية..
قابلت المدير العام.. كان مترددا أن يخبرني..
حتى قال كلمته يؤسفني أن أخبرك أنك غير مؤهل للعمل معنا في الشركة.. لقد أحضر إيان التقرير الطبي ونتيجته غير مؤهل للعمل. يؤسفني ذلك.. تفضل هذا التقرير.
بقيت لحظات أنظر إليه...
لم أستطع أن أرى شيئاً مما كتب في التقرير...
لم أستطع التحدث معه بأية كلمة..
لقد انتهت الحكاية...
لقد تبخر الأمل..
شعرت بخيبة الأمل.. كنت أبني أحلاماً وأمنيات وكنت أحلم أن أقطف الثمار في القريب العاجل... ولكن الأمواج تلاطمت مع بعضها البعض وأخذتني بعيداً عن تلك الأمنيات...
تباً لك يا إيان جمس
قال المدير العام: عبدالله هل أنت بخير...
نظرت إليه وقلت بصوت مبحوح... نعم أنا بخير...
قال: مرة أخرى أنا آسف جداً... يمكنك أن تنهي إجراءات الإستقالة في مكتب الموارد البشرية وأتمنى لك مستقبل أفضل...
خرجت من المكتب... لا أعرف أين أتجه... هل أذهب للورشة أم أذهب لمكتب الموارد البشرية...
قلت في نفسي لم يعد هناك أي عمل أقوم به في الورشة سوى أن آخذ أغراضي الشخصية وأغادر...
ذهبت لمكتب الموارد البشرية وأنهيت الإجراءات الرسمية... وخرجت... كانت نظرات الموظفين تلاحقني وهي تقول: سامحنا... ليس باستطاعتنا مساعدتك...
ذهبت للورشة... عندما فتحت الباب.. توقف الجميع عن العمل... نظروا إليّ جاء أحدهم وقال: هل ستبقى معنا...
نظرت إليه وبعين دامعة قلت: لا...
جاء الموظف النرويجي وقال: أيها السادة لقد عمل معنا هذا الشاب مدة خمسة أشهر لم نرى منه سوى الجد والاجتهاد والانضباط... كان محباً للجميع... لقد تغرب عن وطنه لأجل هذه الوظيفة.. وأرى من واجبنا أن نذهب للإدارة ونسألها أن تتراجع عن قرار فصله... هذا واجبنا أيها السادة...
نظرت ناحيته... ثم قلت: أشكرك يا صديقي... لن أنس هذا الموقف... لقد تعلمت منكم دروساً بليغة... إنني أشكرك.. ولكن لا داع للذهاب... لقد قررت أن أنهي هذا العمل بقناعة مني... شكراً لكم جميعاً...
غادرت الورشة... متماسكاً...
قابلني السائق سعيد... قائلاً ألى أين أنت ذاهب...
قلت له: لقد انتهى الأمر... أعطيته أوراق نهاية العقد... قرأها... صرخ: مستحيل... لماذا عاملوك بهذه الطريقة...
قلت له: لقد كنت نعم الصديق... شكراً لك..
قال سعيد: إذاً دعني أوصلك لشقتك...
جلست مع الأصدقاء في الشقة وقلت لهم سوف أغادر نهائي للسعودية... لقد أنهيت عقد العمل مع الشركة...
قال عبدالله العماني: لماذا...
شرحت له ما حدث...
قال عبدالله العماني: أنت لا تستحق كل هذه المعاناة..
قال هاني المصري: حقاً أنت شاب طيب... سنخسرك...
بعد ثلاثة أيام ذهبنا لمطار دبي...
ركبت الطائرة... نظرت للخارج... قلت في نفسي كانت تجربة.. لن أنساها...
وصلت مطار الدمام... كان في استقبالي أخي... أحتضنني.. أردت أن أتكلم... قال: لا تقل شيئاً أنت بطل... قمت بعمل لم يقم به أي أحد منا...
اتصلت أمي...
قال أخي: نعم يا أمي لقد وصل ونحن في طريقنا للبيت... 40 دقيقة ونكون عندكم
وصلت البيت... كانت عيناي قد أغرورقتا بالدموع...
احتضنت أمي...
ولدي حبيبي... أين جوازك... يكفي سفر... يكفي... لن أدعك تسافر...
بعد شهرين اتصلت بي دائرة حكومية... وتوظفت معهم ولا أزال...
انتهت...