بلا إحراج
في مجلس العزاء كانت الأجواء حزينة جداً فقد كانت المتوفية إحدى السيدات الجليلات، كما أنها إحدى «معلمات» القرآن الكريم وقد كانت لها بصمة في تعليم الكثير من نساء الحي قراءة القرآن ومبادئ الكتابة...
- سألت صديقي أحمد: من ذاك العجوز الذي يجلس هناك... «أشرتُ إليه».
أجابني: أتقصد العم الحاج علي؟
نظرتُ إليه متعجبا وقلت: أتقصد الحاج علي صاحب بقالة الديرة؟!
قال أحمد: نعم إنه هو..
سألته متعجباً: وكيف أصبح هكذا؟! لحيته بيضاء.. لقد تقدم بالعمر كثيراً، لقد غادرتكم منذ خمس سنوات كيف أصبح هكذا؟!
قال أحمد: نعم بعد أن سافرت توفي ولده الوحيد بحادث سير..
قلت: لقد سمعت بوفاة ابنه حسن.. لقد كان شاب خلوقا متدينا. ولكن لم أتوقع أن يتأثر الحاج علي هكذا!
قال أحمد: ليس لحيته التي أصبحت بيضاء بل إنه فقد بصره أيضاً... فقد الولد صعب وكما قال الإمام علي : ”فقد الولد محرقة الكبد“، إن فراق الأحبة في ظاهره دموع وأحزان وفي باطنه كأن عضو من جسدك قد أقتلع منك.
قلت يا إلهي ماذا تقول.. الحاج علي أصبح كفيفاً! دعنا نقرأ هذه الصفحة من القرآن وسأذهب للسلام عليه.
قال أحمد: أرجو أن لا تذكر له شيئا عن ولده المرحوم حسن.. فهو حساس جداً...
قلت: لا تقلق.. ففي مثل هذه المواقف يجب علينا أن لا نعيد شريط الذكريات المؤلمة.
وقفت أمامه ومددت يدي مصافحا للحاج علي.
عظم الله أجرك يا عمي.
أجابني الحاج علي: طول الله عمرك، جزاك الله خير..
قلت: ألا تعرفني يا عمي..
قال الحاج علي: لا لم أعرفك فكما تعلم أنا كفيف. من أنت يا ولدي؟
قلت: أيعقل أنك نسيتني؟! ألا تذكر صوتي؟! حاول أن تتذكر..
قال الحاج علي: اعذرني يا ولدي ليس لدي القدرة على تمييز صوتك.. من أنت؟
قلت: ألا تذكر أحد الأولاد عندما يأتون إلى بقالتك.. كنت تقول لي يا ولدي لا تكثر من أكل الشكولاتة... عليك أن تقلل منها فهي تسبب لك تسوس الأسنان.
قال الحاج علي: هل كنت أقول لك هذا.. أظنك مشتبه.. فأنا لست طبيبا حتى أقول لك هذا..
قلت: نعم يا عمي كنت تقول هذا. انت تعرف اسمي حاول أن تتذكر.
بقي الحاج علي صامتا للحظات. ثم قال: لا أتذكرك. سامحني..
قلت سأذكر لك موقفاً لا أظنك نسيته... أتذكر عندما حضرت واشتريت منك صندوق بيبسي وسألتني ما المناسبة لكي تشتري هذا الصندوق فأجبتك: لقد تخرجت من المتوسط، سأوزع هذا الصندوق على أصدقائي...
بقي الحاج علي صامتاً ثم قال: آسف يا ولدي لا أذكرك.. لقد تعبت يا ولدي..
قلت: ألا تذكر الولد صاحب النظارة... كنت تقول لي النظارة علامة الأذكياء...
بقي الحاج علي صامتا. ثم قال:
آسف يا ولدي أنا لا أعرف إلا الذين يزوروني ولم ينقطعوا عن زيارتي..
بقيت صامتاً...
قال صديق أحمد: هيا تحرك... لقد أصبح وراءنا مجموعة من الناس...
سلمت على الحاج علي وقلت: سوف أزورك في القريب العاجل...
خرجنا من المجلس قلت لصديقي: أيعقل بعد كل هذه الذكريات لم يتذكرني الحاج علي؟!
قال أحمد: أظنه عرفك... ولكنه لم يستطع ذكر اسمك... فكما قلت لك إنه حساس... إنه لم يستطع أن ينطق «حسن»...
همسة:
إنّ الذاكرة في الشباب نشطة وسهلة التأثر، وفي سن الشيخوخة، هي قاسية نسبياً للانطباعات الجديدة، ولكنّها لا تزال تحتفظ بحيوية السنوات السابقة.