الإدارة ليست مهنة للجميع

لقد خضتُ تجربة ليست بالطويلة ولا بالقصيرة في اكتساب المعرفةِ الإدارية ولا زلتُ تلميذا أتعلمُ وأُعزز فهمي من خلال القراءة والبحث والتحليل ولكنني أؤمن بأن العمل الإداري ليس مجرد مهنة للجميع كما يعتقد البعض أو وظيفة تُمارس وتُنفذ بشكل روتيني كما هو معروف في معناه العام، بل هو رسالة ومسؤولية عظيمة تتطلب الابداع والتفاني إلى جانب بناء العلاقات القائمة على الثقة والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة، فالإدارة كما درستها وعرفتها هي علم ُيعتمد على قواعد وأُسس مدروسة، وفن يتطلب إبداعا ومهارات لتجاوز التحديات وتحقيق النجاح، وكما قال بيتر دركر أحد اعظم رواد علم الإدارة ”الإدارة هي الفرق بين النجاح والفشل“ وما نراه اليوم من تخبط أو تعثر في بعض المشاريع أو المؤسسات التي تفتقر إلى التخطيط الاستراتيجي والرؤية الواضحة، انما هو انعكاس مباشر لغياب هذه الإدارة الفعالة، وما يزيد الطين بلة تلك الغطرسة أوالعنجهيات الفارغة التي لا ترى أي قصور في التعامل مع الإدارة كعلم وفن ويرون سهولتها واستيعابها وأنهم قادرون على التعامل مع نهجها القائم دون معرفة النهج، ولذلك غالبا ما تُقابل محاولات التحسين والتطوير بالرفض حيث تبرز عبارات مثل " نحن نعرف كيف تُدار الأمور أو نحن نفهم كيف تنجز المهام أو تُحسم القرارات و.. وما شابه.

 وفي هذا المقال سنعرف ما معنى الإدارة، ولماذا هي مهمة ومهمله في آنٍ واحد، كما وسنستعرض مظاهر التخلف الذي تعاني منه البعض من المشاريع، وسنقدم حلولا موجزة مستوحاة من التجارب العالمية الناجحة التي تُثبت بأن الإدارة ليست مجرد وظيفة، أو مهنة، بل هي القوة المحركة التي يمكنها أن تعيد بناء المؤسسات وتجعلها قادرة على التميز والابتكار في بيئة الاعمال المتغيرة والمتطورة باستمرار

معنى الإدارة

الإدارة هي: عملية تحقيق الأهداف التنظيمية من خلال التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة على الموارد البشرية والمادية المتاحة بفعالية وكفاءة، وقد عرّفها العديد من علماء إدارة الاعمال ورواد الإدارة بتعريفات مختلفة ومن أبرزها تعريف المهندس وعالم الإدارة الفرنسي هنري فايول Henri Fayol والذي يُعرف بأنه مؤسس " نظرية الإدارة الكلاسيكية: بأنها التنبؤ والتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة لتحقيق الأهداف التنظيمية، وتعريف الاقتصادي والمستشار الإداري الأمريكي. النمساوي الأصل بيتر دركر Peter Druckerويُعرف بأنه أب الإدارة الحديثة، بأنها فن إنجاز العمل من خلال الاخرين، وأكد على أهمية تحقيق النتائج مع التركيز على الفعالية والإبداع وتعريف المهندس الأمريكي وأحد أبرز رواد الإدارة العلمية فريدريك تايلور Frederick Taylor بأنها التنسيق المنهجي للأنشطة لتحقيق الإنتاجية الأعلى بأقل جهد ممكن، وتعريف جون كوتر John Kotter وهو عالم إدارة وأستاذ بجامعة هارفارد، ومختص في القيادة الإدارية والتغيير التنظيمي، بأنها عملية التعامل مع التعقيدات من خلال التنظيم والتخطيط وتخصيص الموارد

ومن الرواد في المملكة العربية السعودية

تعريف الدكتور إبراهيم المنيف الإداري السعودي البارز والمتخصص في مجال الإدارة، بأنها مجموعة الأنشطة والتفاعلات التي تضمن الاستخدام الأمثل للموارد لتحقيق الأهداف المشتركة مع التركيز على تطوير الكفاءات البشرية ورفع الإنتاجية، وتعريف الدكتور غازي القصيبي الشاعر والدبلوماسي والاديب والإداري السعودي المرموق الذي تولى العديد من المناصب الإدارية الهامة مثل وزير الصحة، ووزير الصناعة والكهرباء وسفير المملكة في بريطانيا، وله مؤلفات متعددة في الإدارة مثل ”حياة في الإدارة“ حيث ركز على مفهوم القيادة الإدارية وعرف الإدارة بأنها فن القيادة والتأثير في الافراد لضمان تحقيق الأهداف المؤسسية، وتعريف الدكتور محمد الرميحي وهو أكاديمي ومفكر كويتي بارز، ويُعد من أبرز المثقفين العرب في مجال العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، شغل العديد من المناصب منها رئيس تحرير مجلة العربي لفترة طويله، مستشار في عدة مؤسسات أكاديمية وبحثية، ينظر إلى الإدارة بأنها " فن وعلم وتوجيه الموارد البشرية والمادية لتحقيق الأهداف المشتركة مع مراعاة السياق الثقافي والاجتماعي الذي تعمل فيه

مهمة ومهمله في آنٍ واحد

مهمة: لإنها تمثل العمود الفقري لأي منظمة أو مشروع أو مؤسسة لتحقيق أهدافها بكفاءة وفعالية، فهي تساعد في وضع الأهداف الواضحة وتحديد الخطط المناسبة، وتعمل على تنظيم الموارد البشرية والمادية لتجنب الهدر وضمان الكفاءة، كما وتهتم بتحفيز الموظفين وتعزيز الروح الجماعية مما تساهم في زيادة الإنتاجية وتحقيق بيئة عمل إيجابية علاوة على أنها هي المسؤولة عن اتخاذ القرارات الصائبة بناءً على المعلومات والتحاليل لضمان سير العمليات بشكل سليم، ولذلك فهي تعتبر أساس النجاح في أي منظمة سواء كانت صغيرة أو كبيرة حكومية كانت أو خاصه.

أما لإنها مهملة: فبسبب ضعف الوعي بأهميتها، وممارسة ثقافة التسلط والمحسوبية، فقد تُمارس في أحيانا كثيرة كسلطه شخصيه أو امتياز اجتماعي حيث تمنح المناصب بناءً على العلاقات الشخصية أو الانتماءات أو الولاءات أو.. بدلا من الكفاءة والمؤهل، فضلا عن قلة البرامج الاكاديمية المتخصصة التي تُخرج القادة المؤهلين، ولذلك يقول الدكتور الرميحي أن عبارة ”الإدارة فن لا يعترف به العرب المعاصرون“ صحيحة جزئيا إذا ركزنا على افتقار الإبداع والابتكار في الإدارة العربية. لكن الأهم هو توضيح أن الإدارة في أساسها مزيج متكامل من العلم والفن، وضعف الأداء الإداري في العالم العربي لا يتعلق فقط بعدم الاعتراف بالإدارة كفن، بل أيضا بإهمال الجانب العلمي والتأهيلي للإدارة. وهنا قد يبرز في ذهن المتلقي سؤال وهو هل الأشخاص الذين أمضوا سنوات طويلة في العمل واكتسبوا الخبرة العملية تجعلهم أكثر كفاءة في إدارة المؤسسات أو المشاريع؟ أو بمعنى آخر هل الخبرة وحدها تكفي لإدارة المؤسسات أو المشاريع؟ وللإجابة باختصار:

يمكننا أن نقول صحيح بأن الخبرة تمثل جزءا مهما من عملية الإدارة، وتساعد في فهم السياق الواقعي للتحديات لكنها تحتاج إلى الدعم من العلم الإداري وأدواته الحديثة، وذلك لأن الخبرة والتجربة تُبنى على المواقف والاحداث السابقة ولا تُبنى على التحديات الجديدة التي تتطلب استراتيجيات حديثة ومبتكرة، كما أن العلم الإداري قائم على القواعد والأدوات التحليلية مثل التخطيط الاستراتيجي، وإدارة المخاطر، وتحليل البيانات، وإدارة الموارد، والخبرة لا توفر هذه المعرفة، والإدارة الناجحة هي تلك الإدارة التي تمزج بين الخبرة العملية والمعرفة العلمية بالإضافة إلى الابتكار والمرونة في مواجهة التحديات

مظاهر التخلف الإداري

يمكن ملاحظة التخلف الإداري في العديد من المؤسسات من خلال التأخر المستمر في إنجاز المشروعات والاعتماد على القرارات العشوائية التي تفتقر إلى التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، وسوء استغلال الموارد البشرية والمادية كما يمكن ملاحظته من خلال غياب الكفاءات المؤهلة في المناصب القيادية، وانتشار المحسوبيات والعلاقات الشخصية التي تُقصي أصحاب الخبرة والكفاءة، ومن أبرز هذه المظاهر

1 - ضعف التخطيط أو غياب الرؤية الطويلة الأمد

ويعتبران من أبرز العوامل التي تؤدي إلى تعثر المشاريع وإهدار الموارد سواء على المستوى الفردي أو المؤسسات أو الدول، ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة للتنمية الاقتصادية بأن 80% من المشاريع التنموية في الدول النامية تتأخر أو تفشل بسب غياب التخطيط الإداري الفعال

2 - سوء تخصيص الموارد

وهو ظاهرة اقتصادية وإدارية تنشأ عندما تُستخدم الموارد المتاحةُ بشكل غير فعّال أو غير ملائم لتحقيق الأهداف المرجوة، وعلى الرغم من امتلاك العديد من المؤسسات الموارد او العناصر الهائلة مثل «الموظفين الاكفاء، والمال، الأدوات، والتكنولوجيا و...» فإن ضعف الإدارة يؤدي إلى هدرها

3 - الفساد والمحسوبية

وهو استغلال السلطة أو المنصب لتحقيق مصالح شخصية أو مكاسب غير قانونية على حساب المصلحة العامة ويشمل مجموعة واسعة من السلوكيات الغير أخلاقية مثل الرشوة، والتزوير، والاختلاس، و. والمحسوبية هي تفضيل الأصدقاء أو الأقارب أو الأشخاص المرتبطين بالمسؤول بغض النظر عن الكفاءة أو الاحقية

الحلول العملية المقترحة

لكي تتحول الإدارة إلى قوة محركة قادرة على مواكبة التغيرات وتحقيق الاستدامة، لابد من تعزيز الكفاءات القيادية مثل ”برنامج قيادة التحول الوطني“ الذي يستهدف تطوير مهارات القادة في القطاعين العام والخاص، وتبني التخطيط الاستراتيجي الشامل مثل ”رؤية المملكة 2030“ التي تهدف إلى تحقيق التحول الوطني وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن الاعتماد على النفط، وثقافة التحفيز والتشجيع للموظفين والبحث والتطوير، وتطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة بجانب المناصب والمسؤوليات، والجودة، واستخدام التكنولوجيا، ودعم المجتمع المحلي امتثالا بالنماذج العالمية الناجحة في التغلب على التخلف الإداري كسنغافورة، وكوريا الجنوبية، ورواندا وغيرها.

وأخيرا نقول إلى من يعتقدون أن الإدارة مهنة للجميع ويصرون على أنهم أتقنوا مفاهيمها وأساليبها بأن الإدارة ليست ادعاءً أو منصباً يُشغل بالتجربة أو التفاخر بل هي مسؤولية عظيمة ورسالة سامية تحمل في طياتها وعيا عميقا، ورؤية استراتيجية واضحة، وقدرة على التكيف مع التحديات، وبُعد نظر مع مراعاة الجوانب الإنسانية والمهنية التي تضمن تحقيق الأهداف المنشودة بكفاءة وعدالة، مع الالتزام بتطوير الذات باستمرار، والابتعاد عن الغرور الذي يًضعف الأداء، ولعلي أختتم هذه المقالة بمقولة ”من استخفّ بعدوّه هزمه“ ومن تعامل مع عدوه بذكاء وحنكه ظفر وانتصر، فالاستهانة بالمخاطر أو التقليل من شأن التحديات يؤدي إلى الوقوع في الهزيمة بينما التخطيط بعقلانية واحترام قوة الاخر يعكسان نضجاً استراتيجيا، وقدرة على إدارة المصالح بذكاء، وقد استخفينا بالإدارة حتى هزمتنا كما قال الدكتور المنيف رحمه الله تعالى