عندما يتحول المثقف إلى روزخون ..!
يعتقد بعض "المثقفين" أن أبناء مجتمعهم في حالة خصومة مع العقل، وفي مخيلتهم المثقوبة بعوالم الفنتازيا والمؤامرات الكبرى أنهم بالأصالة ونيابة عن الآخرين المستضعفين ، وكلاء لدائرة "العقلانية"وزعماء للمنطق، والغوغاء من "القطيع" لا هم لهم سوى تقويض " نفوذهم "والطعن في مشاريعهم والنيل من "انجازاتهم " المحمية بسياج شائك ضد النقد أوالمراجعة الموضوعية!
لسنا هنا نزايد على حق أي فرد في تبني قيمة ما أو الاعتقاد بمبدأ معين، بصرف النظر أكان معتقده متماهيا مع الجماعة أو متضادا معها ومتمايزا عنها ، هذا حق أصيل لا خلاف في ذلك، وله أيضا أن يروج لمعتقده بكل السبل المشروعة، هذا إذا كانت متاحة وممكنة سياسيا واجتماعيا ،وعند هذا الحد ، لن ينازعه أحد في معتقده، ما عدا مفتشو العقائد الجدد .
لكن أن تحاول فرض رؤاك "الخلاقة" على مجتمع متعدد الأطياف رغما عن أنوفهم وإلا مصيرهم المحتوم الطرد من دائرة"العقلانية" ، في انتهاك صارخ لحق الإنسان الأصيل في الإيمان بما يرتضيه ،فما الفارق حينئذ بينك وبين مفتشي العقائد أيها المثقف التنويري؟!
هذا وأنت تزعم أنك ممتعض من أرباب الوصاية ،الذين ناهضتهم أكثر من مرة، وأنت تتقاطع معهم تماما –علمت أم لم تعلم- في مركزية الوصاية اللهم إلا أنك تدعي "التنوير والحداثة" وهم يدعون أنهم أمناء الدين وحماة أصوله من الابتداع..!
ياسيدي .. كيف تدعي العقلانية في التعامل مع الأحداث والقضايا الشائكة في مجتمعنا وأنت تروج بخطابك الانفعالي ترهات وغيبيات ليست لها صلة بالواقع ، ومفاهيم دخيلة على العصر الحديث والعقلانية التي تدّعيها؟
وكيف ياسيدي تدعي أنك نصير لعلمنة المعرفة"وإن صرحت بذلك ضمنيا رعاية لمشاعر أحبائك من الأوصياء " وأنت بمعولك"التنويري" تحطم وتهمش الآخرين وتمتهن كرامتهم باختيارك الفج لمفردات اقصائية متطرفة لم نجدها إلا في أدبيات أعداء الأمس من المتزمتين دينيا لمجرد الاختلاف معك في رأي قابل للصواب والخطأ ،وفي الوقت نفسه تعلن امتعاضك من حماة العقائد لتشنجهم إزاء مناوئيهم ،على الأقل هؤلاء يعتقدون بأن تأويلهم للنصوص الدينية له مرجعية فقهية متصلة بالوحي ،وصراعهم مع الآخرين هو صراع بين الحق والباطل، وذلك ليس مستغربا منهم فعقولهم معشوشبة بالمطلق،ويبدو لي أن انتصارك الأهوج والانفعالي لرأيك أنك أيضا ظننت – سهوا - أن لرأيك صلة بالوحي،أو أنك امتداد طبيعي للحق المطلق..!
يا سيدي لن نستطيع تجاوز هذه الغيبوبة الفكرية التي تطوق أعناقنا إلا بثقب سقف الوصاية والتابو المحرم من خلال طرح الأسئلة المغايرة المقتحمة لحصون الجهل وصوامع الخدر ..هذا إذا شئنا حقا مقاربة الحقيقة مقاربة جادة متجردة من الأفكار المسبقة والأحكام المعلبة .
المثقف إن لم يعرِ الزيف ويطعن الجهل ويزيح غبار الخرافة وينتصر للحرية ويؤمن بالتعددية قولا وسلوكا فلا قيمة لمخزونه المعرفي.
التنوير ياسيدي..ليس وصاية مستعارة ، بل هو إيمان بالتعددية،وقضيته المحورية –حسب ظني- نزع الوصاية عن العقول بكافة أشكالها ومسوغاتها، التنوير صنو الحرية ،وليس مسخا وتشويها لمفهومها، ومن يحترف زرع بذور الكراهية في مجتمعه من خلال توزيع صكوك الغفران لأترابه وطرد من يختلف معهم من دائرة"العقلانية" بوصاية قذرة تشوه المفاهيم وتزيدها هلامية،هو يأبد من حيث لايعلم للجهل ويكرس حالة تكميم الأفواه بمعول التنوير وباحتكار المعرفة .
وأحسبُ أننا لن نخطو خطوة إلى الأمام إلا تجردنا من فوبيا المعرفة ومارسنا على ضوء ذلك حريتنا في الفكر والنقد دون وصاية من أحد.