شخصنة الاختلاف
لا شك أن الحوار ضرورة ملحة في المجتمع بين الأطراف المتباعدة ، لكي تتلاشى الهواجس التي تولدت كنتيجة طبيعية للعزلة والانغلاق على الذات، وبطبيعة الحال إن موانع التقارب لن تقوض إلا من خلال حوار جاد ، أي تعلم فن الإصغاء للآخر على أساس نسبية الحقيقة.
بعبارة أخرى، الحوار الجاد مع الآخر المغاير يتطلب بالضرورة، سلفا ، الاعتراف بأحقيته في الاختلاف والمغايرة ،والحوار ليس إلا محاولة لفهم الآخر ومد جسور التواصل معه ،وإيمانا بأن الاختلاف هو إثراء للساحة الثقافية والفكرية للمجتمع ودليل على أن الساحة الثقافية تنبض بالحراك الفكري لاحتضانها مختلف الأطياف المعرفية دون سيادة رأي أحادي الرؤية يفرض بالقسر على مختلف الأطياف.
ويتقهقر الحوار وتتداعى بنيانه ،عندما يتخذ سمة تبشيرية ، كـنحو وضع شروط تعسفية مسبقة للآخر المغاير حتى يحظى بشرف الاعتراف به ، ولن يقبل ضمن نسيج الجماعة إلا بعد نزع جلده،أو على الأقل، بعض جلده، وهنا الفارق الجوهري بين الحوار والتبشير، وهذه هي معضلة الحوار مع محتكري الحقيقة..!
لذلك، لا يوجد مسوغ للدهشة والاستغراب من نزعة الأصوليين لتقسيم المجتمع إلى قسمين لا ثالث لهما، المؤمنون والكفرة. لأن جذور الوصاية متأصلة في البنية الأصولية، لهذا يعد الحوار وفقا للذهنية السلفية الأصولية وسيلة للتبشير الصرف للآخر الكافر والضال .
وفي ظل هذه الثقافة ذات النزعة التكفيرية لا يمكن إطلاقا بلورة مفهوم حرية المعتقد والفكر كحق أصيل للإنسان، وكقيمة يمكن الاتفاق عليها بين التيارات الأصولية .
وبطبيعة الحال تكاد تخلو الساحة الفكرية الأصولية التقليدية ( إن كانت شيعية أو سنية) من قراءات ناقدة للأنا من داخل الدائرة الأصولية، لأن المحيط الداخلي مسكون بهاجس الهوية، ولذا ينتج وقائيا مناخا طاردا لأية محاولة جادة للتجديد وتحريك الآسن ، كالتي تستهدف غربلة التراث من خلال نزع القداسة المختلقة عن النصوص والرموز، ومؤدى قراءة من هذا النوع،تداع لأعمدة رئيسة لبنيان الهوية ذات القالب الجامد التي تتوارث جيلا بعد جيل ، والتي تشكلت في أزمنة سالفة على أنها امتداد للعقيدة النقية الخالصة من شوائب الابتداع.
لهذا حوربا الراحلان الفقيه السيد فضل الله والمفكر حامد أبو زيد من قبل طائفتيهما من خلال التيارات التقليدية ، لأنهما قدما قراءة مغايرة لحراس النسق التقليدي الذين يتعاملون مع المعرفة الدينية كإرث خاص بهم ولا يحق لأحد منازعتهم إياه .
وما يحسب في هذا السياق لسماحة الشيخ الصفار كرمز ديني ، انفتاحه على مختلفي الأطياف في مجتمعه ، وسعيه الحثيث لتقريب وجهات النظر حتى مع رموز التيارات السلفية التي تتخذ موقفا عقديا تكفيريا من طائفته، إيمانا منه بأن الحوار هو الوسيلة الأنجع لتجاوز الهواجس والعوائق التي تقف سدا منيعا في وجه تطلعات الوحدة ،وسماحته لم يحاول فرض خياره على أحد، ولم يدعِ أن مشروعه بمنأى عن النقد ،وعندما انتقدنا الداعية الطائفي البريك ،لم يكن نقدنا موجها ضمنيا للشيخ الصفار، وإن حاول البعض الاصطياد في الماء العكر وتحوير الحقائق .
مع الاعتراف أن سماحة الصفار وضع في موقف لايحسد عليه، ،وذلك لاستقباله البريك بعيد محاضرته المتقيحة طائفيا ، والتي حصلت بعد فترة قصيرة من حادثة "تكريم القاضيين المتشددين" الحادثة التي ساهمت في اشعال فتيل ثورة غضب عارمة لشريحة كبيرة من المجتمع،ضمت أطياف متباينة، وبالخصوص إن المجتمع محتقن ،سلفا ، ومتحفز للمزيد من الاحتقان ، مما أفرز ردود فعل متفاوتة ، منها دعوات للمقاطعة، وتلاها بيانات شجب واستنكار من مشايخ بعضهم عاش طويلا في الظل ،ويبدو أن الحدث كان محفزا للخروج لفضاءات الضوء، وتماهيا مع الحدثين ضجت الساحة الثقافية بمقالات لمختلف التيارات ، من ذلك تساءل البعض عن أسباب عدم التواصل مع التيار "اللبرالي السعودي" كـخيار بديل عن التواصل مع التيارات المتشددة ،التي عبر عنهم أحد الكتاب السعوديين بأنهم - أي التيارات المتشددة – عندما يخلون بجماهيرهم يركلون كل شعارات الوحدة!
وللحق ،إن أغلب ردود الفعل اتسمت بالتشنج والانفعالية ، ويمكن فهم المبرر لذلك، لكن بعض المثقفين، ويا للأسف، وبدلا من قراءة الحادثة قراءة موضوعية،أو محاولة امتصاص غضب الجماهير، أسرفوا في التنكيل والتجريح لأبناء مجتمعهم ، كـنحو خلع صفة السذاجة على من طرح رأيا متضادا مع قناعاتهم، واتخاذ هذه المناسبة وسيلة للمز والتجريح ، واختطاف المعرفة والفهم ، وشخصنة القضية كما حدث في كثير من القضايا المختلف عليها ، وكأن أبناء المجتمع غير معنيين بقضاياهم ، ولا يحق لهم طرح خيارات مغايرة ،أو لنقل تعبيرهم على أقل تقدير عن رفضهم بالوسائل المتاحة حتى لا نستفز صاحبنا بكلمة "خيارات"، ولستُ أدري لماذا يفترض بعض الكتاب الجهل وعدمية المعرفة في القراء، وكأن القراء لولا تفضله عليهم بــ"مقالاته" لما أشرقت في سمائهم شمس المعرفة. تعلمنا من أساتذتنا - جزاهم الله خيرا - بأن المثقف يفترض به حينما يتناول خطابا ما يختلف معه، ينبغي عليه لكي يتحرى الموضوعية أن يبدأ بتفكيك الخطاب وتحليله ، ويدحض الفكرة بالفكرة، لا أن يتخذ من الخلاف ذريعة للتشهير والتجريح والامتهان لكرامة مخالفه وشخصنة الخلاف ، فذلك مؤشر صارخ لنكوص الفكر، علما أن الثقافة من المفترض أن تكون امتدادا للنزعات الإنسانية النبيلة لا وسيلة للتعالي على الناس والتحقير من شأنهم، وكيف يمكننا أن نثق في تنظيرات مثقف يدعو للتسامح والانفتاح على الآخر المغاير وهو يضيق ذرعا بأي نقد يوجه لفكره ؟! ولله في خلقه شؤون .
ياسيدي تواضع قليلا ولا تشخصن القضايا فلسنا هنا نختلق الجدل من العدم ، وكفانا قمعا باسم الثقافة ،والقضية ببساطة ، فعل وردة فعل وليس أكثر من ذلك، وكفانا عويل الثكالى..!