المقاربة السياسية للمسألة الطائفية

احتلت الطائفية في الآونة الأخيرة واجهة المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي في الدول العربية على وجه الخصوص، وأصبحت من أكثر الملوثات البيئية التي لا تبقي ولا تذر حاسة من الحواس- ما ظهر منها وما بطن - إلا أفسدتها. وبلغ الانسداد الطائفي حدا مرعبا بإعلان موت الحوار والانتقال إلى ما بعده، مرحلة المباهلات التي لم تحسم شيئا، فلا زالت المواقف تراوح مكانها، ولم يحدث شيء ملموس على الأرض يغير من القناعات القديمة التي يتمسك بها كل طرف. هذا على المستوى الديني، أما على المستوى السياسي فالأمر أعقد من ذلك بكثير، فحالة الانسداد تهيمن على مفاصل الحياة السياسية، ولا يلوح في الأفق أي حل قريب، بل إن كافة المؤشرات تدل على إمعان في ركوب ريح الطائفية التي تهوي بمقترفيها وغيرهم في مكان سحيق.


لقد جرت وتجري العديد من المحاولات لمقاربة المسألة الطائفية من زوايا عدة تاريخية وتراثية وعقدية كلامية وفقهية وثقافية وحقوقية واجتماعية وغيرها. ونتيجة لذلك تراكمت المقاربات، وكان يمكن أن تؤدي إلى ابتكار حلول جديدة لو أن التراكم كان اتصاليا، إلا أنه – وللأسف- كان انفصاليا يبدأ من الصفر دائما ليطرح ذات الأسئلة القديمة وليحصل على ذات الإجابات الجاهزة التي بلغت من الكبر عتيا، وشقيت بما رأته وتراه، وكأن لسان حالها يقول: يا ليل القحط متى غده؟!


 وبالرغم من أهمية جميع المقاربات الجادة، إلا أن المقاربة السياسية تبقى الأهم – من وجهة نظري -في مرحلة تدشين الحلول. فالتاريخ يشهد أن النزاعات المذهبية بين مكونات المذهب السني انتهت بقرار سياسي، كما انتهت محنة خلق القرآن بقرار سياسي أيضا. ومما لا شك فيه أن البعد السياسي حاضر بقوة في المسألة الطائفية، بل يمكن القول إنها مسألة سياسية بحتة. وهذا ما ذهب له طه جابر العلواني في مقال له حيث يقول: إن مجرد الانتماء إلى طائفة أو فرقة أو مذهب لا يجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفياً، كما لا يجعله طائفياً عملهُ لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيشون فيها دون إضرار بحقوق الآخرين. ولكن الطائفيّ هو الذي يرفض الطوائف الأخرى، ويغمطها حقوقها، أو يُكسبَ طائفته تلك الحقوق التي لغيرها تعالياً عليها، أو تجاهلاً لها، وتعصُّباً ضدها. إن أخطر ما يبتلى به شعب أن يتحول حكامه وساسته من رجال دولة إلى رجال طوائف فالمصير الذي ينتظر ذلك الكيان هو التفكك لا محالة ولن يكون بعد ذلك رابح إلا أعداء ذلك الكيان المستفيدون من تمزيقه.


أما برهان غليون فيؤكد على أن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. فالطائفية – بحسب غليون - لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإثنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية في الدولة، بمعنى استخدام الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى.


وقد أيد ذلك أيضا علي محمد فخرو الذي يرى بأن الطائفية قضية سياسية اجتماعية تنشأ في ظل ممارسة الظلم والتمييز ضد جماعة معينة بسبب انتماء أفرادها لمذهب ديني معين أو مدرسة فكرية معينة. قد يكون هذا التمييز في حق ممارسة الشعائر أو في الحقوق الاقتصادية - الاجتماعية أو في التهميش السياسي أو في الإقصاء الثقافي. ويرى فخرو بأن أسباب المشكلة الطائفية محصورة في أربعة: طائفة مظلومة، طوائف أخرى محظوظة ولا مبالية، غياب للمواطنة الديمقراطية، مؤامرات من الخارج.


وفي ظني أن كل ما يقوم به السبب الخارجي هو استثمار البيئة الطائفية الخصبة لتحقيق مصالحه ومآربه، فهو في ذلك مثل الشيطان الذي يقول يوم القيامة:  ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) ابراهيم 22


ومن هنا فإن المخرج من الصراعات والتجاذبات الطائفية لن يأتينا من السماء، لأننا السبب فيما يحدث: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴿٣٠ الشورى.


الحل ببساطة لا يكون إلا عن طريق معالجة الأسباب بسن القوانين والتشريعات التي تكفل للجميع المواطنة المساوية لهم في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، مع توفير الضمانات اللازمة لتطبيقها. أما الحلول الأخرى فهي مسكنات تؤجل الألم ولا تمنح الأمل.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
ابو هادي
[ ام الحمام - القطيف ]: 2 / 11 / 2010م - 6:38 م
بسمة تعالى دائمآ تعودنا بجديدك يا استاذنا ابو احمد وكلامك جميل جدآ ومنطقي من الناحية التوصيفية للمرض ولكن لا يمكن أن يعالج هدا المرض في ظل بلد يعتريها التمييز الطائفي المقيت على كل الابعاد منها التمييز الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وانا اؤيد ما تفضل به الاستاد ابواحمد بأن الحل لهذا المشكل هو بقرار سياسي والكل يجهر بهذا القول من الكتاب والمفكرين ولكن لا توجد ارادة سياسية لتغيير هذا الاحتقان المذهبي وفي اعتقاددي القاصر بأن الايام القادمة ستشهد توترات طائفية لا يحمد عقباها كفانا الله من الفتنه الطائفية وحفظ الله بلدنا ومجتمعنا من السوء 00
2
فائق المرهون
[ القطيف - ام الحمام ]: 6 / 11 / 2010م - 1:13 ص
الأستاذ بدر / وفقه الله
في عالم اليوم تميل الرياح بأفكار الناس من عاصمتي القرار الطائفي بشقيه الشيعي والسني , وتجنحا بهم نحو المزيد من التصلب الفكري المغلف بالسياسة , فضاعت البوصلة عند جيل اليوم , وصارت صورة الآخرين في نظره معتمة , وبات هذا النشء يعتقد أنه فقط يعلم الحقيقة والصواب , بينما الآخرون ضلوا الطريق وبات ملزما لديه التصدي ومحاربة مايظن أنه يمس معتقداته المقدسة !
رفقا بنا اللهم .
3
بدر الشبيب
[ أم الحمام ]: 7 / 11 / 2010م - 10:05 م
الأخ العزيز أبو هادي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك على مداخلتك الرقيقة.
نعم نحتاج لإرادة سياسية تنهي التأزم الطائفي وتعيد الأمور إلى مجاريها قبل أن يفلت الزمام وندخل في متاهات الفتن والاحتراب لا سمح الله.
وفقك الباري لكل خير
4
بدر الشبيب
[ أم الحمام ]: 7 / 11 / 2010م - 10:15 م
الأستاذ فائق المرهون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
من أسوأ ما ابتلينا به اليقينيات الجامدة في قراءة الآخر، إذ هناك صورة نمطية غير قابلة للتغيير لدى كل فريق عن الآخر، وإليها يرجع الحكم عليه.
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.

والمشكلة ( وهم يتلون الكتاب )

فهل نسير على خطاهم حذو النعل بالنعل.

أخشى ذلك.
شاعر وأديب