أنا أفكر، إذن أنا موجود
التنوير وفقا لكانط يعني خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته، بمعنى أن القصور هو عدم القدرة على استخدام الفهم الذاتي دون قيادة الغير واستعارة فهمهم الخاص وتبنيه كبديل للفهم الذاتي ." تجرأ على استخدام فهمك الخاص"والقصور بهذا المعنى ليس غيابا للقدرة على الفهم ، بقدر ما هو تغييب للعزم والجرأة في امتشاق الفهم الذاتي والتعويل عليه ، فخلق الرأي واتخاذ موقف معين إزاء قيمة أو قضية ما ، هو خرق لتابو "الاتباع الأعمى والتداعي الحر والتسليم المطلق..، وكل ذلك يقتضي أسبقية الإيمان على الفهم " بينما الخيار الآخر الذي قد يكون الأكثر سلامة هو التداعي الحر لقيادة الآخرين وسطوتهم في تقييد الفهم وتحديد مساحة الرأي .
وكما يقول ديكارت " أنا أفكر، إذن أنا موجود" وفيض الوجود هنا يستمد دفقات حياته من خلال التفكر، الشك ، والرأي ، والنقد الحر ، لا الحياد المصطنع واستلاب الوعي للآخرين والقبول الخانع.
بيد أن الوصاية على أفكار الناس ونواياهم لا تتمخض إلا من مجتمع يقتات صباح مساء على موائد الخوف والاتكالية والتعويل عند الأزمات على الحلول الغيبية، أوالموضعية والقصيرة الأمد ، التي يحترف الأوصياء ابتكارها وترويجها على نطاق واسع على هيئة مسلمات لا تخلو في مضمونها من فكرة إقصائية " الحقيقة المطلقة وما عداها باطل ورجعية و تطرف..إلخ ".
ويقتضي ذلك بالضرورة الطعن والتشكيك بكل محاولة جريئة للخروج عن سطوة الأنساق على أنها لغو وتطرف. والمصطلح يسيس بطبيعة الحال خدمة لأجندة الأوصياء ، أو حراس النسق، فالتطرف أواللغو يخلع على كل فكر أو سلوك لا يتماهى مع أجندتهم، بصرف النظر عن حقيقة الفعل في ذاته أكان صوابا أم خطأ ، لأنهم المسؤولون عن شرح المصطلح وتحديد أطره ودلالاته ، فما وافقهم كان صوابا وما خالفهم كان خطأ.
والدور الفعلي للأوصياء في أي مجتمع يسودون فيه ، هو تحوير القيم والمفاهيم عن دلالاتها الحقيقية ، أو عن سياقاتها التاريخية الفعلية، وتحويلها بعد ذلك ، إلى مطلقات ومتعاليات ، غير قابلة للتداول ثقافيا في نطاق المراجعة الفكرية المنهجية ، لأن أية محاولة جدية لسبر أغوار المطلقات قد تؤدي للكشف عن مدى هشاشتها ورجعيتها ، وقد تتساقط هالات القداسة عن بعضها ، أو على أقل تقدير قد تكشف عن ثقوب تحتاج إلى إعادة النظر ، فضلا عن الاستفهامات المعلقة والمعتقة حتى إشعار آخر!!
ويفترض في المثقف المسكون بقلق المعرفة أن تكون عقيدته البحث عن الحقيقة ولا شيء سواها ، فلا شيء أسمى من الحقيقة ، ولا إيمان يسبق الفهم ، ووفقا لذلك تكون مهمته التحرر الفعلي من سطوة الأنساق والأفكار الجاهزة، وشكل ذلك التحرر يبدأ من خلال فتح الأبواب المغلقة وطرح القضايا الشائكة والعالقة للنقاش الجدي والمراجعة الموضوعية ، كنحو المفاهيم والقيم ، التي تتداول ببغائيا بين الجماعة على أنها مسلمات خارج نطاق المراجعة أو الشك (كبعض العادات والتقاليد)، لا أن يتحول المثقف إلى حارس للأنساق ومردد ببغائيا للرجعية والاستبداد وللأفكار المعلبة ولكن بخطاب ذي صبغة ثقافية حداثية مشوهة..!
وهذا ما عبر عنه علي حرب بــ"حراسة الأفكار". فالحرية والعدالة والحقيقة والسلطة والمسلمات برمتها ، هي مفاهيم تختلف باختلاف البيئة الثقافية والاجتماعية التي انبجست منها حتى تحولت عبر سيرورة زمنية إلى قناعات راسخة ومتجذرة ، وهنا يأتي دور المثقف من خلال تسليط الضوء على المفاهيم المتعالية على نطاق التفكير، والتي هي بطبيعة الحال لها انعكاسات سلوكية على أرض الواقع، وتسليط الضوء لن يتأتى إلا من خلال صوغ الأسئلة الجدية الجديدة والمغايرة فكرا ووممارسة، ومن ثم بلورة حقل نقدي مؤسس على البحث عن علل الأشياء ، بدءا بـمحاولة فهم الواقع وتدبره وتشخيص أمراضه والتساؤل حيالها ، واستقصاء بدايات انبثاقها الفعلية ، فضلا عن محركاتها ، عبر صيرورتها التاريخية ، وفهم اللامعقول وعقلنته، قبل تكوين الانطباع أوإطلاق الأحكام أو القبول أو الرفض ، بعيدا عن التماهي والتسليم المطلق لما يرشح من قيم ومفاهيم عن النسق الذي يكاد يكون سائدا.
والسؤال الأهم في تقديري الذي ينبغي أن يطرح في هذا السياق:هل قوالبنا الفكرية ، والبنى الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، خضعت لمحاولات جادة للفهم والنقد والتفكيك البنيوي والمراجعة الموضوعية واستشراف عللها ، إن كان على مستوى القيم والمفاهيم المتعالية على نطاق التفكير الجمعي ، أو على مستوى انعكاساتها المتمثلة في الممارسات السلوكية ، أم أنها ما تزال تتوارث جيلا بعد جيل على أنها مسلمات غير قابلة للدحض ؟!