الناشطون الجدد

 

مقهى ريش وسط القاهرة تأسس في العام 1908 م، وكان له دور كبير في التاريخ الثقافي والسياسي في مصر، حيث كان يضم أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين. في فترة الحكم الملكي كان مكانا لتجمع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفي الستينات كان ملتقى للأدباء والمثقفين أمثال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، وغيرهم ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها عصر يوم الجمعة منذ عام 1963 ، كما شهد المقهى ولادة العديد من المشروعات الأدبية والفكرية.

لكن المقهى لم يعد هو ذات المقهى، اختلف الوضع تماما مع موجة الانفتاح الاقتصادي وأخلاقياتها الرأسمالية التي أغرقت السوق المصرية. يقول مكاوي سعيد في كتابه ( مقتنيات وسط البلد ) متحدثا عن الوضع الراهن للمقهى: الأجانب مرحب بهم جدا داخل هذا المكان، لكن المثقفين الذين استثمر الملاك المكان باسمهم يعاملون بإهمال واستخفاف.

انتهى عصر مقهى ريش، ودخلنا عصر نهاية المكان، وربما نهاية المثقفين التقليديين أيضا، حيث نشهد انبثاق ما يمكن أن نسميهم بالناشطين الجدد الذين التقطوا اللحظة الراهنة واستوعبوا معطياتها ومتطلباتها، وأتقنوا التعامل مع أدواتها، فانطلقوا في فضاء المقاهي الإلكترونية العابرة للحدود من فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها من وسائل الإعلام الاجتماعي، وتمكنوا من صنع الكثير من الإنجازات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

الناشطون الجدد هم الممسكون بناصية الإعلام الاجتماعي الذي يكاد يُسقط الإعلام التقليدي بالضربة القاضية. فلم يعد المثقف النمطي وحده هو الذي يكتب ويقرأ له الناس، ولم تعد حرية التعبير عن الرأي محكومة بالقرار السياسي في بلد ما، ولم يعد النشاط الاجتماعي والسياسي حكرا على أحد. اليوم في الصين أكثر من 42 مليون مدونة شخصية، وفي أمريكا أكثر من 26 مليون مدونة، ويتوقع أن يصل أعداد أعضاء فيسبوك خلال العام الجاري إلى مليار شخص.

إذن نحن أمام مشهد جديد:

في كينيا مثلا تم إنشاء موقع لمراقبة انتخابات عام 2008، وأطلق عليه " أو شهيدي " وتعني في اللغة السواحلية شاهد أو شهادة. تقوم فكرة الموقع على أساس إشراك المواطن العادي في هذا العمل السياسي، بأن تراقب مجموعة من المواطنين الانتخابات، وترسل تقارير عن أي تجاوزات أو انتهاكات تحدث خلال عملية الاقتراع، ومن ثم تجمع هذه التقارير في موقع "أوشهيدي" على شكل خريطة تشمل مراكز الاقتراع الرئيسية بحيث يمكن معرفة ما يحدث بأي مركز منها بمجرد الدخول إليها من الموقع. نجحت الفكرة، ثم انتقلت عدوى المراقبة الإلكترونية إلى الانتخابات الهندية، كما استخدمت في تتبع آثار الحرب في غزة عام 2009، وفي مساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية في هايتي وتشيلي، ثم استنسخت الفكرة في مصر بإطلاق موقع " أنت شاهد "، والذي كان له دور فعال في كشف تزوير الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر عام 2010 م.

وفي لبنان تحول المدوّنون في الانتخابات البلدية الأخيرة إلى جهة مدنية مستقلة تمتلك رخصة من وزارة الداخلية لمراقبة الانتخابات، وذلك لأول مرة في العالم العربي، كما تمكنوا من خلال حملة إلكترونية واسعة من إيقاف القانون المقترح لتنظيم الفضاء الإلكتروني.

وفي تونس كان للشباب الذين يملكون مهارات استخدام التواصل والإعلام الاجتماعي على الانترنت الدور الكبير في تغطية الحدث التونسي لحظة بلحظة، حتى أطلق البعض على الثورة التونسية اسم ثورة الفيسبوك.

أما حركة شباب 6 أبريل المصرية فقد ولدت من رحم الانترنت في العام 2008 م، وبدأت بتشكيل مجموعات في الفضاء الافتراضي تجاوزت الآلاف، حيث دعت لإضراب ناجح يوم 6 أبريل، وكان لها ما أرادت.

الناشطون الجدد ليسوا صحفيين محترفين، أو سياسيين بارزين، أو حزبيين عقائديين، بل هم مجموعات من الشباب المتنوعين فكريا، وغير المنتمين حزبيا في الغالب، يؤمنون بقدرتهم على التغيير، ويجمعهم شيء مشترك هو محاولة فعل شيء لمواجهة الفساد والانحراف بكافة أشكاله.

والناشطون الجدد يركزون على المساحة المجمع عليها من الهموم العامة والتي تشمل طيفا واسعا من القضايا المعيشية والاجتماعية والبيئية مثل الحريات العامة، واستقلال القضاء، والتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان والمطالبة بحقوق الأقليات وحقوق المرأة، وبتطبيق العدالة الاجتماعية وتحقيق مفهوم المواطنة، و...

يتحدث الكاتب قطب العربي عن شباب موقع " أنت شاهد" مشيدا بدورهم في مراقبة الانتخابات حيث "لم يتعللوا بقصور الإمكانيات، ولا بقلة الخبرة، بل راحوا يستخدمون هواتفهم المحمولة و كاميراتهم الصغيرة في رصد عمليات التسويد، ونقلها للعالم، ونجحوا بذلك في كسر حالة الحصار الذي فرضته السلطة على الفضائيات والصحف التقليدية، وأمدوا تلك الفضائيات والصحف بمئات اللقطات المصورة والمرئية، كما استقبلت صفحة وحدة الرصد الميداني ما يزيد عن أربعة ملايين زائر يوم الانتخابات فقط".

إذن ليس غريبا أن تختار مجلة تايم الأمريكية مؤسس ورئيس موقع فيسبوك كرجل العام، لأن فيسبوك بحسب المجلة غير حياتنا وكيف نتعامل مع الناس والمعلومات إلى الأبد.

وليس غريبا ما ذهب إليه أستاذ القانون في جامعة جورج واشنطن الأمريكية، جيفري روزين، أن مستقبل حرية التعبير عن الرأي سيحددها صناع القرار في شركات مثل غوغل، وفيسبوك، وكومكاست، وليس من قبل السياسيين والسلطات القضائية في عدد من مدن العالم. ويستشهد روزين على رأيه هذا بعدم قدرة أي أحد على وقف تحميل مقاطع فيديو على اليوتيوب سوى رئيسة مجلس إدارة شركة غوغل نيكول وانغ.

وأخيرا ليس غريبا أن يحل الناشطون الجدد بحيويتهم المفعمة بالأمل والمجيدون للغة العصر محل أولئك الذين تسمروا مكانهم وأصروا على إعادة قراءة ( الفصل في الملل والنحل ) غير مدركين ما جاء به اليوتيوبيون والفيسبوكيون والتويتريون وإخوانهم من أصحاب الفرق الجديدة من إبداعات.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
مكارم
[ أم الحمام ]: 8 / 2 / 2011م - 9:47 م
إبداع كالعادة
شاعر وأديب