الحب العائم
جلس على الكرسي في نهاية الممر المؤدي إلى القاعة .
وعيناه ترتقب الباب متى يفتح ؟
ويعلم ماذا جرى بين الأبواب المغلقة ؟
ومع أول حركة للباب لمعت عيناه بنور الأمل وهرولا مسرعًا نحوها .
وأن أحترق شعره بالشيب ولحيته تآكلت من البياض , فعمره عمر الزهور , وما لطخ شعره ولحيته إلا محن وخطوب الأيام .
بدأها وتمنى لها الخير وانتهاء معاناتها .
قالت : وكلامها مزين بالحزن , لا . لا لم ينتهي .
بل كثرة الغربان , وكل غراب يريد نهش الأشلاء , وما شد حيرتي وأدهشني غراب كبير في السن والعلم أراد أن يأخذ نصيب الأسد .
وما أن لسع لسانه حتى علما أن أشلائي مرة وقاسية .
قالت : لا أريد أن أتحدث عن الماضي , لأني أريد أن أعمل بنصيحتك حتى أرى المستقبل بعيون الحب والأمل , ولا تجف زهور حديقتي .
وأنت . ماذا وراؤك ؟
قال : أرى النور يلمع في الأفق , وأن بدأ الضوء خفيف ولكن في المستقبل سيعم في أرجاء المعمورة .
وغادر كلًا منهما المكان وتواعدا على التواصل فيما بينهما .
وبعد أخذ نصيب من الراحة بعد المعاناة الأخيرة .
اتصل بها هاتفيًا وتمحور الحوار عن صحتها , وقضاء وقتها , واهتماماتها ونشاطاتها .
لم تستغرق المكالمة أكثر من خمس دقائق وكانت كافية لمعرفة وقراءة أفكارها .
وبعد أن أغلق السماعة , أخذته سفينة أفكاره تبحر بين شواطئ الماضي والحاضر . وعيناه تنظر إلى المستقبل .
لمس فيها الحب والدفء والتجلد وتحمل المسؤولية واحترام الآخرين قبل نفسها قرأ علمها المسجل على شهاداتها . لا . لا عقلها .
وهي كذلك أبحرت سفينة أفكارها وكثرة أسئلة سفينتها .
هل هو مختلف عن الرجال الذين تعاملت معهم ؟
هل هو رجل ؟
أم ماذا ؟
هل يريد الإيقاع بي في شباكه ؟
ورفعت رأسها . لا . لا .
فهو رجل محترم يفيض قلبه بالمشاعر النبيلة , ويمتلك أحساس البراءة .
وتسارعت الأيام ومضى أسبوع وآخر على آخر مكالمة تمت بينهما .
ومع بزوغ الأسبوع الثالث أنار القمر السماء , وتلألأت النجوم حول القمر.
ويطرق باب المنزل ويُفتح الباب .
وبعد تبادل التحية والتعارف .
أستقر به الجلوس في غرفة الضيوف .
وسأل عن أخيها الأكبر وطلب التحدث إليه في أمرٍ هام .
وجرى نقاش طويل بينهما .
تمخض عن رغبته في الاقتران بشقيقته , والتمسك بطلبه وعدم شرب القهوة إلا بعد تتويج طلبه من جميع أفراد أسرتها بالتهاني .
طرقت الباب وبصوتها الهادئ طلبت المشاركة في الحوار , حتى تضع أقدامها على الطريق السليم وتتحمل مسؤولية الكلمتين ( نعم , لا ) .
أذن لها بالجلوس وطرحت وجهت نظرها , وتناقشت معه .
هل أنت جاد في طلبك ؟
قال : نعم .
بعد تفكير عميق , وموسع وأخذ بعين الاعتبار الجوانب السلبية والإيجابية والسؤال عن كل ما يتعلق بالحياة الجديدة .
قالت : أنا صفر اليدين لا تملكُ ما تقدمه لك .
ولم أوهب جمالًا ربانيًا , وتعليمي ينزل عنك درجات , ولغتي بسيطة وشعبية , والحوار بيننا ربما يضيع .
كما ضاع قلبي وهو يتلمس الحب , وعقلي تبلد من كثرة التفكير , وجسمي أقصد بقايا جسم امرأة .
وقاطعها وقال : هل أتكلم أم انتظر دوري .
قالت : لا بل تفضل .
قال : لم أقدم على هذه الخطوة إلا بعد الدراسة كما قلت لك .
قال : أنت تعانين من الوهم وتخافين من عقدة الفشل .
قالت : لا . لا .
قال : بل نعم . نعم .
قالت : الحياة الزوجية في داخل تصوري القاصر مثل الصياد والسمكة .
فالصياد يضع الطعم في الصنارة , لتعلق به السمكة , فظاهر الصنارة غذاء سمين , وفي باطنها الألم .
فإن علقت السمكـة فإن عاشـت تألمت , وأن تخلصت من الصنـارة انجرحت , أو يتخلص منها الصياد .
والمرأة كذلك ما أن تتعلق بالرجل حتى يتخلص منها أو يعذبها .
وعندما تخلص نفسها يحي جسدها وتمـوت كل معانيها .
قال : هـل أكرر طلبي ؟
أما لا فكل واحد له وجهت نظر تحترم , وأما نعم وأنعم بها وأكرم .
فكل ما يخطر على بالك تحت إشارة أصغر أنملة في يديك .
قالت : رغم كل ما سمعت ورأيت تصر على طلبك ؟
قال : نعم أنا الآن متمسك بك أكثر وأكثر .
قالت : كيف ؟
وهل أنت تختلف عن الرجال ؟
قال : لا أنا رجل مكتمل الرجولة , والرجولة احترام الذات وعدم تنكيس الأعلام أما العواصف مهما اشتدت .
قال : هل أريح عقلك وقلبك من الصراع بينهما حتى لا تتمزقي ؟
قالت : بلهفةٍ كيف ؟
قال : لم تلعب أصابعي على جرس الباب إلا بعد أن أقتنع عقلي ونشرح قلبي لك , وبهدوء وبكلمات ناعمة .
قال لها : أنا وجدت فيك الجمال الذي لا يبلا , مع التقدم بل يزداد نضارة وحسن , وعلمك القليل أكن له كل الاحترام , لأنه ممزوج بالعمل النافع .
وقيل قديمًا العلم في الرأس لا في الكراس .
وأنا أضيف بل ترجمة ما في الرأس والعمل قبل الناس .
وأشلاء جسمك سأجمعها في صدفة ولن اسمح لأحد أن يدني منها أو يلوثها حتى ولو بنظرة .
وسيرتك صحيفة بيضاء أبيض من اللجين وأصفى من الحليب الصافي .
وأرى كلما عصفت بك المحن والعواصف زاد من بهائك وتألقك .
قال لها : هل وفيتك حقك ؟
قالت له : كلامك جميل ويسحر قلوب العذار .
وهل أضيف بعض الجمل ؟
أشار لها برأسه بالقبول .
قالت : لم يؤثر كلامك في قلبي , لأن قلبي قد قبر في ربيع عمره , وعقلي هو المتصرف وهو أقسى من الصخر الأصم .
قال : الآن أجيب على بقية السؤال .
قالت : ما ذا تقصد ؟
قال : أم أزيدك بعض الكلمات ؟
فأنا وأعوذ من قول كلمة أنا .
أنا رجل حصدت أعلى الدرجات الدراسية من أرقى دول العالم .
ومنذوا نعومة أظافري طرقت باب العمل , واكتسبت من هذا الباب أعلى الدرجات حتى من الشهادات الدراسية .
مجال عملي فتح الباب على مصراعيه , لتعامل مع الجنسين ومختلف الجنسيات واللغات والديانات , ومحن العمل والاحتكاك أعطى عقلي الكثير حتى أنه أصبح يستطيع أن يلتقط الذهب في أصعب الظروف .
رفعت رأسها ونادت على بقية أفراد أسرتها .
وحبس أنفاسه لأنه لا يريد أن يسمع الكلمة التي تتكون من حرفين .
قالت : لتبارك أسرتي طلبك .
قال : الآن انشرح صدري وأقدامي بدأت تسير في الاتجاه الصحيح .
قالت : أما أنا فلم تعد الفرحة تفرحني ولا حتى الحزن يحزنني .
كفاقد حاسة البصر أشعلت النور أم لا .
قالت : لكني سوف أصخر كل إمكانياتِ لكسب بلوراتك ونثرهم على جيدي لتباهي بهم .
قال : زهور حديقتك سأرويها بالعسل المصفاة لتزين حديقتي وتنعمي بعطورهم كل ثانية .
غادر المكان بكل احترام وتقدير بعد أن تراضى الطرفان على التفاصيل والعناوين .
ومضى الليل ببطء كأن الساعة توقفت عن الدوران أو ربما تعطلت . لا تتحرك .
ومن النافذة نظرت إلى العالم المظلم , لا حركة سكون وألقت بنفسها على سريرها .
وقالت : لا حركة في الخارج , ولكن الحركة في رأسي تتضاعف كل لحظة .
قبضت على الهاتف لتتصل به .
وسبقها ورن جرس الهاتف.
ألقى عليها التحية , وفهـم من نبرة صوتها وألحان حروفها بأنها كادت أن تتمزق بين قلبها وعقلها وتفكيرها , الذي لم يرحمها .
قال لها : أنت لم يفارقك السهر وكذلك التفكير والحيرة .
قالت نعم . قال لها : أخلعي العدسة القديمة , وانظري إلى المستقبل بعدسة أكبر وأجمل , تعاملي مع الآخرين باحترام وحذر .
وليكن حكمك عليهم من خلال احتكاك بهم , لا من الآخرين ولا من تجربتك .
قالت : وأنت ما الذي أقلق مضجعك ؟
قال : كأن القدر بعث لي برسالة يشرح فيها وضعك , وما أن أرسلت الشمس خيوطها الذهبية .
وزقزق العصفور قائلًا : أتصل بها تحركت مشاعري قبل أناملي للاتصال بك .
وقبل أن يغلق السماعة شكرته على الاهتمام بها .
وقالت : في داخل نفسها .
هل هو رجل أم ملاك ؟
يجيد فن التعامل في كل أمور الحياة , وهو في مقدمة كل من يتبار معهم .
هل سهامي غزة قلبه وتربعت على عرشه ؟
هل سينير دنيتي مثل هذه الشمس التي تنير هذا الفضاء الواسع ؟
هل أنقضت سنوات الليل الحالك ؟
هل انقشعت الغيوم السوداء ؟
وصرخت من أعماق حيرتها صوت هز عروش الظالمين لا أحتمل الصدمات يكفي . يكفي .
أحتضنها بين ذراعيه , وقبل اللؤلؤ المتناثر على وجنتيها , وسمعت دقات قلبه بقلبها .
قال لها : كل دمعة تنزل من عينيك فهي تجري في قلبي وتقطع شراييني .
لا أريد الحزن يتسلل إلى قلبك .
هذه الدنيا تفتح لنا سبل الخير , وهذه الشمس تشرق لتحي الأمل , وحديقتك تنتظرنا لنزرعها بالحب والأمل .
نظرت في وجهه .
وقالت له : أرى ذئاب الماضي ووحوش البراري تدنس حديقتي , وتنهش أزهاري , وتقطع أشجاري , فهي حكمت ونفذت ,
وعزمت على مواصلة خلعي من جذوري وسحق كل عطوري وذرها في الهواء .
مد يده الحانية إليها وقال : هذه يدي مفتوحة لك رحمة عليك تتنزل , وغضب وعذاب على كل من يدني منك بسوء .
تبسمت من بين الدموع وقالت : بصوت موشح ببسمة الأمل حروفك صدقتها ولكن .
قال : ولكن ماذا ؟
قالت : لا تطلب مني الحب الآن , وترك الأيام القادمة تسحب الحزن ويولد الحب , ويسقى بالأمل ونظلل عليه بالرعاية .
قال لها : لو قلت غير هذا لحكمتُ عليك بالتسرع وعدم تقدير الأمور .
وحمل الحوار الذي جرى بينهما بين طياته الأمل وكل ما فقد في السنوات وأغلق الباب ( باب الماضي ) .
وفتح الباب على مصراعيه إلى الأمل والحياة الجديدة .
ونقشت ساعة التتويج لأنها لحظة ميلادها الحقيقي .
واقتربت منع بحذر وببطء , وتعمقت في ذاته وروحه وعشقت عشقه لها , وسكنت قلبه .
قبل قصره العائم فوق جزيرة من الحب .
وسكن هو قلبها بعد أن خلع كل جذور الألم , وبذرهُ بالحب والأمل , وحول قلبها إلى حديقة غناء تفوح منها روائح المسك والعنبر .
نهاية الحب العائم