تعميم سري للغاية

 

من الطبيعي جداً ان يسعى الإنسان لمعرفة بواطن الأمور تحت عنوان حب الإطلاع ، وجوع المعرفة ، أو الفضول ، كما أنه من المقبول أيضاً أن يهرب المرء من مربع الجهل إلى آفاق العِلم ليدرك ما يدور حوله من أحداث ، أمّا بهدف حماية نفسه ومن يهمه أمرهم من الوقوع في المحذور ، أو من أجل أي هدف آخر تُحدِّده الأسباب التي تدعم رغبته الجامحة في معرفة ما تحت الغطاء ، والقيام بمحاولة الكشف المُتعمّد عن المستور .

 وعطفاً على ذلك النّهم المعرفي والطبيعة الإنسانية التوّاقة للكشف عن كل ما وراء الأبواب ، وخلف الستار ، فقد بات مألوفاً أنه إذا ما أُريدَ لمعلومة ما أن تنتشر كالنار في الهشيم ، وتسير بصورة أسرع من البرق ، يجب أن " تُدبغ" بالسرية ، وتوضع في ملف " أسود ، أو أحمر " أو في مُغلّف مُخصّص للأعمال السرية ، أمّا إذا كانت المعلومة تتم في الحقل الإجتماعي " الغير رسمي " فيكفي لضمان إنتشارها بالسرعة المطلوبة ، وفي أحيان كثيرة أن تهمس برقة بالغة ، ولطف بديع ، بجملة " بيني وبينك " في إذن من تتحدث معه بأمانة وإخلاص ، بعيداً عن فضول الناس ، والوسواس الخنّاس . 

  ولا غرابة أنه مع التبذير المهيب ، والإستنزاف الغير مسبوق " للسريّة " والإنتهاك الفاضح لحرمتها ، وتوالي تسرُّب محتوياتها ومضامينها في عصر القصف الهادر والمستمر لأمن المعلومات ، وتشهد بذلك وثائق " ويكيلكس " التي مثّلت إنهياراً مُدوياً لكل ما يمكن أن ينسحب عليه مفهوم " السرية " لا يقلُّ زلزالاً ومهانة عن إنهيار مركز التجارة العالمي في حي منهاتن بمدينة نيويورك الأمريكية في 11 سبتمبر 2001 م . لأن تلك الوثائق قد فقدت نكهتها ومدلولاتها ، وتسببت بدرجة أو بأُخرى في تعطيل المجسّات السريّة لدى أغلب الناس ، وتمكنت من رمي كرة مُلتهبة في الملعب السياسي الدولي ، أدت إلى ولادة حراك سوداوي لن يهدأ في القريب المنظور على أبسط تقدير ، من الفعل وردود الأفعال بين الأطراف المتصارعة التي تتحيّن الفرصة تلو الفرصة للتنكيل ببعضها البعض ، وتسعى جاهدة لتجميع النقاط السياسية التي تؤهلها لإحتلال مركز الصدارة في سدة المواجهة ، وتجعلها أعلى كعباً في دائرة الصراع المحموم مع خصومها .

  اليوم – أيها الأحبة - الذي بات فيه العالم أشبه بالقرية الصغيرة ، وتلاشت فيه المسافات بين البشر في كافة ارجاء المعمورة ، وأصبح هناك نفر من الناس يهوى نشر الفضائح والصفائح ، ويسعى لحاجة في نفسه لتفريغ كل ما هو سري من محتواه ، ليجعله عرضة لكل من هبّ ودب ، ربما طمعاً في الدعاء له بـ " رحمة الوالدين " من المنتفعين بإنجازه الفذ ، والإنتهازيين ليس إلاّ ، أو ربما للتشفي من " السرية ذاتها " لأنه شبّ على الشفافية ، والإيمان بحق الإنسان في المعرفة ،أو ربما لفرد وإبراز " عضلاته الفضائحية " ، أو لتمكين مهاراته الجهنميّة من الرقص على أنغام العداوات . فأي كانت الأسباب التي تدفع البعض لتسطيح ما سري وعرضه في البازار الإلكتروني ، المهم أن السرية في عصرنا الراهن أمست في مهب الريح ، لأن هناك من عاهد نفسه وشيطانه على إنتهاكها مهما كانت الأضرار مدمِّرة ، وهنا يكمن الخطر الذي لا يدركه بالتأكيد . تحياتي .  

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 18 / 5 / 2011م - 9:41 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
أليس من الضروري علينا الفصل بين تقدير السرية ومكانتها في حياتنا الإجتماعية والنفسية , وبين السرية المنتهكة في عالم السياسة و الإقتصاد ؟
أعتقد بتواضع إن المجال الأول من الضروري و الحتمي مراعاة جانب الخصوصية و احترام المقامات والذات الإنسانية, أما فيمن يتملكون رقاب الشعوب و لقمة عيشهم فلا مجال إلا إظهار و وتعرية ما يدبرونه بليل , لهؤلاء البسطاء المخدوعون , ولكن وفق ضوابط التحري و الصدق والمسؤولية .
كم هو مهم لموضوعك اللافت أن يناقش على مستوى واسع من المثقفين المستقلين , أما مثقفي البلاط فحتما هو مرفوض مرفوض !!
لاقى السعد وجهك , و أطل الندى بحرفك .
2
ابراهيم بن علي الشيخ
20 / 5 / 2011م - 12:44 م
أخي الموفق : الأستاذ فائق الموفق
وعيك الذي يستفز اللاوعي يبحر في عباب الحروف فيصدر هديراً يوقظ سبات الغافلين ، فشكراً لك على تواصلك الذي يضيء دروب الطامحين .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية