ما جدوى أن أكون مثقفاً

 

هل يحمل هذا العنوان دعوة للمراجعة وعمل جرده حساب لدور المثقف وإنجازاته، خصوصا في المساحة الطبيعية التي يتحرك فيها، والحيز الذي يتنفس فيه، بعدما غدا المناخ الثقافي الراهن يشهد بلادة خاوية ورِدّة سلبية، وأخذت تتغلغل في جنبات حياتنا كل مظاهر وقيم السلبية والوهن والتخاذل والاغتراب، والشعور العميق بالانكسار والإحباط والفراغ، والإحساس بالعبثية والعدمية واللاجدوى، في ظل سيطرة ثقافة المتعة والاستهلاك، وتراجع الثقافة الجادة وانحسار مفعولها؟  

قد يكون ذلك، وقد يضمر أشياء أخرى غير ذلك أيضا، فهي دعوة مفتوحة لإعادة نظر شاملة في أدوار المثقف وأهدافه وحساباته، لتكون أكثر وضوحا وشفافية، تمكنه من رسم خريطة طريق واضحة المعالم لأحلامه وتطلعاته، يسير على خطاها وهو يتجه صوب أهدافه المرجوة، والتي يفترض أن تكون محددة وواضحة بالنسبة له. فلم تعد الدنيا كما كانت، حيث ارتفعت الأصوات، وانتشرت الأقاويل، تتهم المثقف بأنه أصبح فائضا هزليا لا يحتاجه احد، وانه يزداد هزلية وعقما يوما بعد يوم، ولم يعد له من الأدوار الجدية، والفعاليات التغييرية، والمناشط الفعالة، ما يعتد بها، بعدما عصفت بالعالم من حولنا أحداث تاريخية ومتغيرات كبرى، همشت دوره ووضعته في موضع الشك والريبة.

إنه لمن المؤكد أن أحدا لا يشك في أهميه دور المثقف الجاد والملتزم في حياة الشعوب والأمم، وأدواره المطلوبة في عملية النهوض والتغيير المنشود للمجتمعات، وقياده حركة الوعي فيها. إلا أن السؤال الذي يثار دائما عن جدوى وأهمية دور المثقف، ولو بصيغ وأشكال مختلفة، هو حول الأدوار المطلوب من المثقف القيام بها في هذه اللحظة الراهنة من التاريخ، في ظل المتغيرات والتحولات الكونية الكبيرة والمتعددة، التي جرت وحدثت وغيرت عالم اليوم، حيث انعكست على صورة المثقف، وأبرزت العديد من التصورات تتعلق بالجانب المفهومي لمصطلح المثقف، وبدلت بالتالي من صورته، وأثرت في وظيفته، ودوره المطلوب.

وأمام هذه الصورة المتغيرة لمفهوم المثقف وصورته، فإنني لا أملك أن أصف نفسي بالمثقف استجابة لسؤال عنوان هذه المقاربة: فهل أنا أتمثل فعلا هذا المفهوم، وأحمل مواصفاته بشكل حقيقي؟ أم أنه مجرد مصطلح يقال ويوصف به كل من هب ودب، من دون أي معايير ومقاييس واضحة؟

إن لمفهوم المثقف، دلالاته وحمولاته المعرفية والأخلاقية والعملية، وهي مضامين تضع على كاهل حامل المفهوم مسؤولية الالتزام بها، والتقيد بمقتضيات وضرورة حملها.

وأنا دائما ما أتحسس وأخاف وأصاب بالهلع، عندما أسمع كلمه المثقف تقال لي، فما أن أسمعها حتى أضع يدي على قلبي خوفا من تحمل أعباء وأوزار وثقل مسئوليه لا قبل لي بها.

 فهل يمكن لأحد أن يقبل أن يوصف بصفه هو لا يملك مواصفاتها ومقوماتها وأخلاقياتها؟ إن المثقف في المجتمعات الناهضة هو رأس الرمح في حركة التغيير الاجتماعي والسياسي، وحركة تغيير الحياة الإنسانية نحو الأفضل، ووظيفته تجعله قائدا في أمته، وحاملا لمشاعل النور التي تضيء دياجير الظلام.

وأنا لا أجد في نفسي ما يؤهلني بان أكون في مثل هذا الموقع.

إنه من الصعب علي أن أدّعي أنني أملك سمات ومواصفات ومكونات المثقف الجاد. فالمثقف ليس مجرد تراكم معرفي وقدره على الحديث والكلام المنمق، أو إجادة التخاطب والجدل مع الآخرين، أو موهبة ودربه في الكتابة والنشر، إنه أكبر من ذلك بكثير، إنه أولا وأخيرا سمو في الأخلاق العالية، والتزام أخلاقي بقيم الفضيلة والنزاهة والشرف، ثم الالتزام بمسئولية الدور الذي يجب أن يؤديه بأمانه وإخلاص في المجال والحيز الاجتماعي الذي يعيش فيه.

إن مفهوم المثقف، كما أعتقد، يحمل في طياته، تركيبه متشابكة من عناصر حيوية مختلفة ومتكاملة، عندما يفتقد أحدها تختل صورة المثقف، وتتحول هذه الصورة إلى أي شيء أخر غير أن تكون صورة المثقف. لذلك عندما يخاطبك أحد بصفتك مثقف، فإن من واجبك ومسؤوليتك أن تكون ملتزما بمعايير هذا المفهوم وتتأكد من أنها تنطبق عليك.

إن معنى أن أكون مثقفا، يعني أن أكون مجتهدا وجادا في السعي إلى كسب وتحصيل عناصر هذا المفهوم، عاقدا العزم على الالتزام بمعاييره، وهو ما يمكن لعنوان هذه المقاربة أن يشي به، عند البحث عن المعاني المختلفة لأبعاد السؤال، وذلك بالدعوة إلى امتلاك وتمثل مواصفات المفهوم، ليكون المثقف عند إذ، قادرا على تأدية دورة بوعي وإخلاص، وليكون فعلا رأس الرمح في حركة التغيير والنهوض الاجتماعي.

إن جدوى أن أكون مثقفا، تحتم علي أن أضع في قمة أولوياتي خدمة المجتمع والبيئة التي أسكن وأعيش فيها، وأن أكرس كل ما أملك من قدرات وإمكانيات ورأس مال ثقافي وعلمي للرقي بالمجتمعي، ونشر الوعي والثقافة بالتواصل مع القطاعات المختلفة فيه. فمن أجل حراك ثقافي واجتماعي واسع وفعال، لا بد من خلق التواصل الدائم والمستمر بين المثقف والبيئة التي يعيش فيها، ولا بديل عن ذلك التواصل إذا ما أراد المثقف تغييرا حقيقيا في ذهنية وعقلية الناس الذين يتواصل ويعيش معهم وبينهم.

لو كنت مثقفا لتحملت جزئا من اللوم والعتاب بسبب هذا الضعف في التواصل. فإحساس المثقف الدائم بالعلو والرفعة والتجاوز، وإدعائه الدائم أن هناك فجوة معرفية تفصله عن أبناء مجتمعة، يجعله يعش عالمه الخاص والمنعزل، محاكيا رموزه وأشخاصه الخيالية، متقوقعا في برجه العاجي، الذي لا ينزل منه إلى أرض الواقع.

إذا ما أراد المثقف أن يستعيد دوره الريادي، الذي أستلب وأخذ منه كما يدعي، فإن عليه أن يعيد تواصله مع جماهير أهله ومجتمعه بشكل أوثق، وينزل إلى صفوفها ويحتمي بأشواقها وتطلعاتها، ويصدح بأفراحها ويداوي وأوجاعها، وعليه  أن لا يغفل وهو في غمرة هذا الاندماج والتواصل أن يحول من وظيفته إلى ديناميكيه نشطة وفعاله من أجل تفعيل ودفع حركة التنمية والتطوير والتجديد، مزاوجا بين القيم الموروثة الحية وقيم العصر الحديث، فلا يكون تقليديا منكفئا، ولا يكون مستلبا إمّعة يبحر مع الرياح أينما اتجهت.

لا يعني تواصل المثقف مع بيئته، مع ما يفرضه ذلك من تحديات وضغوط، أن يتخلى عن أهم أدواره ومهامه وهو دور الناقد، وإلا ما عاد يستحق أن يحمل شرف هذه المهمة. فالمثقف الذي يغض النظر عما هو سلبي ووضيع في مجتمعه ويتناساه، ويمرر أخطائه ويبررها، ولا يرى فيها إلا ما هو إيجابي ورشيد، مع ما فيها من أخطاء وانحرافات تستحق النقد والمراجعة والتصويب، فإن هكذا مثقف لا يمكن أن يكون إلا خلاف صورته.

إنه لمن المؤكد أن طغيان وهيمنة بيئة المثقف وقبيلته الحزبية أو الطائفية أو المذهبية، أو أي تصنيف وانتماء آخر، يمكن أن تعد عاملا أساسيا وجوهريا في تشويه صورة المثقف، وتراجع أدائه وأدواره، عندما يتحول إلى أداة طيعة وسلبية في تبرير أخطاء وسلبيات قبيلته، في الوقت الذي يجب أن يكون هو الأساس والعمود الرئيسي في عملية التغيير الجذرية، وصاحب رؤى مستقبلية لواقع جديد ومزدهر يتطلع إليه، كونه القائد الحريص على تمثيل تطلعات الجماهير المشروعة، وكونه أيضا ملاذها وضميرها ولسان حالها، وصاحب الضمير الحي وشعلة التنوير والوعي.

عندما أكون مثقفا لسوف أقف بالمرصاد لكل تلك الضغوط أو المغريات التي تدعوني للمهادنة، ولن أتنازل عن رصد الواقع وإخضاعه للمحاكمة، ولن تكون علاقتي مع أطراف مجتمعي قائمه على أساس الحب والبغض، أو الصداقة والعداوة، وإنما ستكون قائمة على أساس الحق والعدل، والعمل على هذا الأساس لصالح قيم مشروعه، متى ما انتهكت، شرعت لساني وقلمي محاكما الواقع، والأفعال السلبية المرتكبة، ومن يرتكبها، مهما كان موقعه، ومهما علت قامته.

هذا ما يجب أن يكون عليه المثقف، فهو رائد التغيير الاجتماعي، والقائد المتصدر للنشاط الثقافي المستقل غير التابع، صاحب أطروحات تسهم في تشكيل دهنيات ووجدان المجتمع. فهو غير محايد أو مهادن عندما تتعرض القيم للانتهاك والاستلاب، ويقف إلى جانب حق الإنسان في الحرية والعدالة والمساواة، وينحاز إليها مهما كلفه ذلك من ثمن، من أجل ترسيخ ودعم هذه المبادئ، وألا يتحول إلى خادم مطيع لدى أصحاب الحضور والحظوة والنفوذ.

لو كنت مثقفاً ماذا عساي أن افعل أمام الوظيفة النقدية للمثقف، والتي تحمل في طياتها مهمة عسيرة وصعبة وحساسة، إذ كيف للمثقف أن يكون ناقداً حريصاً على تصويب أخطاء مجتمعه، وفي ذات الوقت عليه أن لا ينجر ليكون بوقاً وأداة تستغل لممارسة الاحتيال على الناس، فهذا المثقف السلبي والمحتال، متهم بالمساهمة في إعاقة حركة الوعي والثقافة، وتعميق وتكريس حالة الجهل، من خلال تواطؤه ضد تنوير مجتمعه.

وإذا كان هذا النموذج للمثقف المتواطئ على مصير مجتمعه حالة لا يمكن إنكارها، فإن من واجب المثقف الملتزم المهموم بمصير مجتمعه أن يحرص على ممارسة دوره بأمانه، بصفته مثقفا ناقدا حريصا على انبعاث التجديد في مجتمعه، فمن دون الحفاظ على التجديد الدائم، والانبعاث المتواصل، يتجمد المجتمع ويتكلس، ويسير إلى الخلف. فمن دون عملية النقد الدائم والمستديم، لا تتصحح الأفكار، ولا تنضج أية أطروحات جديدة وفاعلة في المجتمع.

قد تلعب الظروف السائدة التي يمر بها أي مجتمع دوراً في تكبيل المثقف وتقييده عن القيام بأدواره الحقيقة، فيصبح أداة طيعة في يد القبيلة، إن غزت يغزو، وان تصالح يصالح، فيغدوا بوقاً ينطق باسمها، ومتحدثاً بلسانها، مبرراً سلوكها، مدافعاً عن تجاوزاتها، مرسخاً ثقافة التبرير والتزييف والتسطيح.

كما يمكن لهذه الظروف ذاتها أن تفعل ما هو معاكس ومختلف، وتخلق المثقف الجاد والناهض الذي لا يستسلم للأجواء السلبية والظروف السائدة، فيعمل على تغيير الوضع المهترئ بكل جد ومثابرة. فهو عندما يرى حالة التبلد والاستسلام واليأس لدى الناس، يشعر بأن من واجبه النزول إلى الشارع والانخراط في العمل الجاد، من أجل التأسيس لبنى ثقافية جديدة، قادرة على إشاعة وترسيخ منظومة قيم بديلة، توقف حالة الانكسار والارتكاس التي يتعرض لها المجتمع، وتدفعه للعمل بقوة وهمة ونشاط، محولاً حالة اليأس والقنوط، إلى حالة من الأمل والتفاؤل، والتطلع إلى المستقبل بكل عزم وأمل.

عندما أكون مثقفاً لن أستسلم لمنطق التواكل والعجز والرضا بالأمر الواقع، بل سأكون معانداً هذا الواقع الرديء والسلبي، وسيكون هذا الواقع سبباً يدفعني بكل قوة وعزيمة على أن أقدم رؤية مختلفة لتطوير مجتمعي، ساعياً لبناء عقل جديد ومجتمع جديد تتوفر فيه المقومات اللازمة لمواكبة مستوى حضارة العصر الذي نحن فيه، وما تتطلبه هذه المعاصرة من مقتضيات وشروط.

عندما أكون مثقفاً سأكون مسكون بالقلق والبحث عن مثال ومنظومة قيم جديدة صالحة لهذا الزمان، وسأعمل لتكون لي رؤى وأهداف ذات معنى، وسأراهن وأعول على تلك الشرائح الأكثر قدرة وحساسية على تبني قضايا المجتمع بصدق وأمانة وإخلاص، وسأقاوم الخراب الذي تسببه القبيلة، ولن أدع الخراب يفلح في إطفاء جذوة الوعي، بل سأبحث عما في الخراب من عناصر مجهولة أو مهمله، تكون كافيه لإيقاد هذه الجذوة من جديد، حتى تبرز الطاقات المخزونة في باطن المجتمع مرة أخرى وأشعلها، لتكون نيرانها أقوى من الهزيمة، بعد أن كادت هذه الطاقات أن تندثر وأوشكت شعلتها على الانطفاء.

لو كنت مثقفاً لكنت سباقاً إلى ممارسة النقد الذاتي مع نفسي، والبحث عن عيوبي وأخطائي، قبل أن يسبقني إلى الكشف عنها احدٌ غيري، ويقوم بتعرية مواضع الضعف والخلل في سلوكي وأفكاري. بل سأدعو غيري، ممن يدّعي انه إلى هذه الفئة ينتمي، ليقوم بعملية مراجعه شامله لذاته، بشكل دائم ومستمر، وبدون كلل أو ملل، وإصدار كشف حساب يحصي فيه إنجازاته وإخفاقاته، ليكون هذا الكشف، حافزاً على العمل من جديد، وتجديداً لنشاط الروح،، وتفعيلاً لقوة المثابرة، وإيقاداً لشعلة الحماسة في الذات.

إذا كان مطلوبا من المثقف، إعادة النظر في حاله، وإعادة بناء ذاته، أخلاقيا وفكريا وثقافيا، تحت شعار النقد الذاتي، فلأن على عاتق المثقف من الأعباء والمهام التربوية والاجتماعية والتثقيفية والتنويرية، ما يتطلب منه أن يكون على مستوى مسؤولية الدور المناط به، ومؤهلا للانخراط في أداء مهامه بكل اقتدار، وتحمل أثقاله الصعبة. فكلما زادت صعوبات الحياة وتحدياتها، ازدادت الأحمال وعظمت المسؤولية .   

الطريق طويل والزاد قليل.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
أحمد منصور الخرمدي
31 / 5 / 2011م - 12:59 ص
و نحن نعيش هذه التجربة ( الصعبة ) بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات ونحاول أن نتفاعل بكل المعطيات بأقصى ما لدينا وما نملكه من حدود وسمات ( روحانية ووجدانية ) .
فالتجربة ما زالت بالنسبة لنا ( في أول الطريق ) محاطة بالحذر والمخاوف بعد الحماس .
ندعوا المولى عز وجل الأ تكون هناك ( إنتكاسة ) لاسمح الله ، تكون النتيجة لهذه التجربة أن تنهار في مهدها .
نسأل الله لنا ولكم يا ( أستاذنا ) التوفيق وأننا نرفع لكم الشكر والتقديرعلى هذا المقال الثري والساطع .