الفرزدق أمويّ أم علويّ؟
تعقيباً على ما نشرته مجلة الواحة، في عددها التاسع والخمسين، من خريف 2010م، للشاعر السيّد محمد الخباز، تحت عنوان (أموية الفرزدق)، فقد وجدت فيه بعض الملاحظات أحببت إماطة اللثام عنها؛ بغية تعميق النقاش والتحاور الفكري، بعيداً عن الجدل والمهاترات الكلامية، ولأهمية الموضوع الذي نحن بصدده، فالفرزدق ( . . - 110 ه = . . - 728 م ) وهو همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، وكنيته أبو فراس - وهي كنية الأسد - شخصية لها ما لها من المكانة في الشعر العربي، وآثارها في اللغة عظيمة، حتى قيل: "لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس"[1]، ووصمُهُ بالأموية بناء على ما اتكأ عليه الكاتب من ضوابط ومعايير، في اعتقادي فيه الكثير من التسرع، وغياب للدقة والموضوعية، ولمناقشة هذه الفكرة سأذكر هذه الملاحظات تباعاً على شكل عناوين، وفق ما أراد الخباز إيصاله للقارئ، وسأقف عند التالي:
- مركزية المقال.
- عقيدة الفرزدق.
- الرصد التاريخي لفكرة (أموية الفرزدق).
- الشعر والعقيدة.
- الصدق الفني عند الفرزدق.
- معايير غير علمية.
- القصيدة الميمية.
- لا وجود لقصائد في مدح أهل البيت (عليهم السلام).
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>مركزية المقال
مركزية مقالة الخباز وعمادها ابتنيت على دعامتين للحكم على الفرزدق بالأموية:
الأولى - اتخاذ ديوانه وثيقة أساسية ووحيدة، ولكي نكون أكثر تحديداً: اعتماد بعض المقاطع من قصائده في مدائح أمراء بني أمية للحكم عليه بالتشيع لبني أمية.
الثانية - ضرب قصيدته الميمية الشهيرة التي امتدح فيها الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، التي ارتجلها دون أن تأخذه في الله لومة لائم، مما يدلّ على صدق العاطفة فيها، وقد جاء ضربها مستنداً على التشكيك في نسبتها إليه، والقول بأنّها للحزين الليثي، قالها في قثم بن العباس.
وسنرى في السطور الآتية هل تستطيع هذه المقدمات - إن صح التعبير- التي اعتمدها الكاتب أن تنهض دليلاً علميًّا يحكم به عقيدة وولاء الفرزدق لبني أمية؟
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>عقيدة الفرزدق
ذكر الخباز: "إن الفرزدق كان عثماني الهوى، متعصباً لبني أمية، مادحاً لأمرائهم ومستجدياً عند أبوابهم "ص 100"، وقال أيضاً: "لا يمكن أن نحكم بشيعية الفرزدق من خلال الديوان، بل بأمويته، فالديوان ينطق بتشيع الفرزدق لبني أمية" ص 101"، ثم فصّل القول بعرض بعض قصائد الفرزدق في مدح أمراء بني أمية لينتصر لفكرته، كمدح سليمان بن عبد الملك، ومدح الوليد بن عبد الملك بن مروان، ومدح يزيد بن عبد الملك، ومدح بشر بن مروان، ومدح الحجاج بن يوسف الثقفي، وانتهى إلى القول: "إنّ ما قام به الفرزدق بشعره الذي استعرضناه إذا نظرنا له من خارج المنظار الطائفي - كونه يدلّ على عثمانية الفرزدق لا على علويته - يُعد جريمة ثقافية - إذا تسامحنا في إطلاق صفة المثقف على أدباء ذلك الزمان" ص 106".
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>الرصد التاريخي لفكرة (أموية الفرزدق)
إنّ دعوى (أموية الفرزدق) ليست بجديدة، فقد كتب الدكتور شوقي ضيف في كتابه المؤلف سنة 1963م والذي يحمل اسم تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) عن حياة الفرزدق، قائلاً: "إنه ظلّ طويلاً لا يفد على قصر بني أمية في دمشق، وأول من وفد عليه من خلفائهم سليمان بن عبد الملك، وله يقول:
تركتُ بني حربٍ وكانوا أئمةً
ومروان لا آتيه والمتخيرا
ومنذ هذا التاريخ يصبح من شعراء بني أمية الذين يدعون لهم ويدافعون عن خلافتهم، مضفين عليهم هالة قدسية من التقوى والبرّ، تحفّها المبالغة المسرفة من مثل قوله في سليمان:
أنت الذي نعت الكتاب لنا
في ناطق التوراة والزبرِ
وقوله في يزيد بن عبد الملك، ولهوه ومجونه معروف:
ولو كان بعد المصطفى من عباده
نبي لهم منهم لأمر العزائمِ
لكنتَ الذي يختاره الله بعده
لحَمْل الأَمانات الثِّقال العظائمِ
ورثتم خليل الله كلّ خزانةٍ
وكلّ كتابٍ بالنبوة قائمِ
ولعلّ في هذه الأبيات ما ينقض قول من زعموا أنه كان شيعياً مائلاً إلى بني هاشم، وإنّهم ليسترسلون في ذلك فينسبون إليه قصيدة في علي بن الحسين وهي القصيدة ذات البيت المشهور:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ
وقد أنكر أبو الفرج الأصبهاني نسبة القصيدة إليه. والذي لا شك فيه أنّها تخالف نسجه كما تخالف نفسيته..."[2].
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>الشعر والعقيدة
وبعد أنّ أثبتنا أنّ فكرة الخباز في (أموية الفرزدق) فكرة قديمة، نقول: إنّ كلامه السابق فيه نظر؛ لأنّ الشعر لا يمكن أن يُحكم به على عقيدة ومذهب الشاعر، فهناك فرق بين الصدق الفني والصدق الواقعي، فليس من الضروري أن تكون جميع انفعالات الشاعر واقعية تعبّر عن قضايا حقيقية في الواقع الخارجي الفيزيائي، بل كثير من انفعالاته تنبع من دائرة الانفعال النفسي الداخلي، وتعبر عن مكنونات نفسه، وما اعتلج في خبايا صدره.
وسواء أعادت انفعالاته للصدق الواقعي الخارجي أم للصدق الفني الداخلي النفسي، فكلاهما -في دنيا الأدب- يُسمى صدقاً، مع فارق أنّ الصدق الواقعي يعكس مطابقة حقيقية للواقع الشهودي، بينما مشاعر الصدق الفني تعكس صورة الأشياء كما بدت على مرآة قلب الشاعر، وشكلها المنصبغ بانفعالاته ومعاناته التي اكتوى في أوارها، فالشاعر – غالباً – لا يرى الأشياء كما هي في الصورة المادية الخارجية الباهتة، بل يراها بصورة شعرية ملتهبة من خلال بركان انفعالاته الداخلية المتأججة.
لكنّ الفرق يكمن في المقابلة بين الصدق بنوعيه (الواقعي والفني) من جهة، وبين المشاعر المفتعلة المصطنعة من طرف آخر. فإذا كان الشعر لا يحكي معايشة لتجربة إنسانية صادقة (واقعية أو فنية)، وكان مجرد انفعالات متقمصة فهو، حينئذ، يخلو من الصدق، وينطوي تحت دائرة مقابله وهو الكذب.
والخلاصة: أنّ مشاعر الشاعر قد تكون صادقة تطابق الواقع، أو تطابق ما يعتلج ويمور داخل نفسه، وهو في كليهما صادق بأحد نوعي الصدق، وقد تكون مشاعره - في حين آخر - كاذبة مصطنعة متى خالفت الواقع الخارجي، أو جانبت مشاعره الداخلية، لكن يبقى ميزان (الصدق وعدمه) هو الكاشف عن مطابقة الشعر لمعتقده الديني أو الشعري، أما مجرّد الشعر فليس كافياً في إثبات المعتقد؛ لإمكانية مخالفته لمعتقده الديني والشعري، وركضه خلف المال، أو الجاه، أو خوف الأذى والضرر.
وفي معنى قوله تعالى: ﴿الشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء:224-226]، يقول صاحب تفسير (الأمثل): "فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية، حتى أن القوافي تجرهم إلى هذا الاتجاه أو ذاك، ويهيمون معها في كلّ واد... وهم، غالباً، ليسوا أصحاب منطق واستدلال، وأشعارهم تنبع مما تهيج به عواطفهم وقرائحهم... وهذه العواطف تسوقهم - في كلّ آن - من واد لآخر... فحين يرضون عن أحد يمدحونه ويرفعونه إلى أوج السماء، وإن كان حقه أن يكون في أسفل السافلين، ويُلبسونه ثوب الملاك الجميل وإن كان شيطاناً لعيناً... ومتى سخطوا على أحد هجوه هجواً مرًّا، وأنزلوه في شعرهم إلى أسفل السافلين، وإن كان موجوداً سماويًّا. تَرى؛ هل يشبه محتوى القرآن الدقيق المنطلقات الشعرية أو الفكرية للشعراء وخاصة شعراء ذلك العصر، الذين لم تكن منطلقاتهم إلا وصف الخمر والجمال والعشق والمدح لقبائلهم وهجو أعدائهم؟ ثم إنّ الشعراء عادة هم رجال خطابة، وجماهير لا أبطال قتال، وكذلك أصحاب أقوال لا أعمال، لذلك فإنّ الآية التالية تضيف فتقول عنهم: ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾"[3].
ومن هذا المنطلق الفني الجمالي، واحتضان الشعر للخيال والمبالغة؛ قيل: (أعذب الشعر أكذبه)، ويمثله قول البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم
فالشعر يغني عن صدقه كذبه
ولا شك أنّ الكذب الذي عناه البحتري ليس القيمة الخلقية في مقابل الصدق، وليس تعمد إخفاء الحقيقة، وتغيب الصدق، ومما يؤسف له جد الأسف أنّ من الأدباء الذين ينتهجون هذا الأسلوب في التعبير عن مشاعرهم من رُموا بالإلحاد والزندقة والفسوق ومخالفة الدين والأعراف والقيم، وتم تجريمهم لوجود إيحاءات الألفاظ، أو ظلال المعاني، أو مستتبعات التراكيب، أو الدلالات الثانوية، التي لا يستطيع هؤلاء أن يدركوا معانيها كما قصد الشاعر، وإنّما يتمسكون بما بدا لهم من سطحية ظاهرية المعنى وحرفيته، دون التمعن في مناسبة ودوافع القصيدة، وطبقات المعنى المتراكبة وبنيته العميقة.
وشتان بين الشعر الرسالي الذي كان ينشده أبو طالب وابنه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والسيّد إسماعيل الحميري الذين كانت أشعارهم تتدفق من عاطفة صادقة لم تتلوث بحبّ التكسب، أو خوف السلطان الجائر وحقن الدم كما هو حال الفرزدق، والذي قد يكون تقليداً فنيًّا محضاً يكسب الشعر عذوبة وجمالاً ورقة وتشويقاً، كما يروق لبعض شعراء الطف في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) أن تبدأ قصائدهم بالغزل العفيف، أو كوصف الخمر الذي أضحى عند الأدباء من متممات الشاعرية.
فرق بين هذا الشعر الصادق وبين شعر المتكسبين الهادف نيل الجوائز والعطايا، ولعلّ من أقوى الشواهد ما ينقل عن السيد محمد سعيد الحبوبي (1266- 1333 ه = 1849- 1915 م)، أحد شعراء ونوابغ القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجري، وهو يومئذ من أجلّ مجتهدي الشيعة في العراق، ومن طبقة المجاهدين في محاربة الإنكليز، ورغم كونه فقيهاً ورعاً وآلت إليه الزعامة الدينية في العراق، لكن شعره غرق في وصف الخمرة والمغامرات الغرامية، حتى أنّ خمرياته "لم تدع أمراً من خصوصيات الخمرة إلا تناولته ووصفته. ففيها وصف للونها، ومذاقها، ورائحتها، وعمرها الطويل، وصفاتها، وحُبابها، وأثرها في شاربها، وآنيتها من زق، وكأس، وأباريق، ومجلسها، وأوقات شربها، والساقي والساقية والنديم"[4]، حتى أنّه يُنقل: أنّ منشداً قرأ ذات ليلة في نادٍ من أندية النجف قصيدة السيّد محمد سعيد الحبوبي الموشّحة التي قالها في زفاف أحد أصدقائه، فطرب لها الحاضرون، حتّى إذا بَلَغَ المنشِد قوله:
قَدْ شرَبتُ الخَمْرَ لكِنْ كَلُماكْ
ما رأتْ عيني ولا ذاقَ فَمي
قام أحد الحضور إلى السيّد الحبّوبي، وكان حاضراً المجلس، وقال له :أسألك - يا سيّدي عن (قد) ماذا تفيد في الكلام؟ هل هو حرف تحقيق أو تقليل؟ فقال له: (قد) إذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، ولكن لم أشربْها - (يعني الخمرة) - وحقّ جدي رسول الله. فضحك الحاضرون، واستحسنوا سرعة التفاتته إلى غرض السائل المداعِب[5]، وكان الحبوبي - لفرط نعته الخمرة - "قد فطن إلى أنّ تهمة معاقرتها ستلصق به، فبادر إلى دفع التهمة عن نفسه في مواضع متعددة من شعره، فهو يقول:
لا تخل، ويك، ومن يسمع يخل
أنّني بالراح مشغوف الفؤادْ
أو بمهضوم الحشا ساهي المقل
أخجلت قامته السمر الصعادْ
أو بربات خدورٍ، وكلل
يتفننّ بقرب، وبعادْ
إنّ لي من شرفي برداً ضفا
هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رمتُ نهج الظُرفا:
عفة النفس، وفسق الألسن"[6]
ويعلق عبد الغفار الحبوبي على هذا، فيقول: "لو كانت خمريات (الحبوبي) وليدة الواقع، إذاً لوقف جمهور المسلمين في عصره بوجهه، فحالوا بينه وبين الزعامة الدينية التي انتهت إليه في المرحلة الأخيرة من حياته، ولطعنوا سيرته، غير أنّ شيئاً من هذا لم يحدث. فخمرياته، إذاً من صنع الخيال المبدع الخلاق"[7].
وعليه فإنّ الحكم على الشاعر من خلال شعره لا يصح إلا إذا قطعنا بمطابقة شعره للواقع الخارجي، أو عدم مطابقته، ومطابقة شعره لمشاعره الفعلية المختزنة في مكنوناته، أو عدم مطابقتها، فحينئذ نستطيع القول بأنه وافق عقيدته الدينية أو الشعورية، أو خالفها، أما إذا كان تقليداً فنيًّا، أو كذباً جاء تحت ذريعة أو أخرى، فإنّه لا يحكي واقعه العقدي والنفسي، وفي هذا يقول بعض النقاد: "إنّ من أهم الخصائص الفنية للشعر الأموي ضعف عنصر الصدق الانفعالي في شعرهم بصورة عامة"[8]. وهنا تكمن المأساة التي عاشها الفرزدق.
والشعر العربي قديمه وحديثه يحتضن بين دفتيه العديد من الشواهد التي تؤكد أنّ الشعر قد لا يثبت الحقيقة الواقعية الخارجية، ولا الصورة الاعتقادية الكامنة في ذهنية الشاعر ونفسيته، بل يثبت، أحياناً، الحقيقة الفنية، وفي أحيان أخرى يجانب الواقع والشعور والفنّ معاً، وأن الواقعية لا نقطع بها بمعزل عن بيئة الشاعر والعوامل المؤثرة فيها.
وإلى جانب هذا المسرد التحليلي، نجد أنّنا بحاجة إلى ذكر شواهد شعرية تبيّن مدى الفجوة بين الشعر والمعتقد، وإمكانية الانفكاك بينهما، وأنّ التصريح الشعري لا يثبت - بالضرورة - عقيدة الشاعر، وإنّما هو شيء من طبيعة الشعر الذي يتماهى – في كثير من الأحيان - مع الأشياء، ويلبسها رداءه.
*الشاهد الأول: نقرأ لشاعر البيت الأموي الأخطل: أبي مالك، غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو (19 - 90 هـ،640 - 708م)، وهو نصراني من بني تغلب، ومن ألقابه ذو الصليب، والذي قال عنه الأب لويس شيخو في كتابه (شعراء النصرانية بعد الإسلام): "إنّ أمَّ الأخطل علقت على صدره صليباً، لم ينزعه حتى كهولته، حتى عند دخوله على الخلفاء، فعرف لذلك (بذي الصليب)"، وروي:"إنّ الأخطل دخل على عبد الملك بن مروان يوماً فحادثه وأنشده من شعره، فأعجب به، فقال عبد الملك له: "يا أخطل، أسلم تسلم"، قال: "نعم يا أمير المؤمنين، إن أنت أحللتَ لي الخمرة, ولم تكلفني حج البيت, ولم تأخذني بصيام شهر رمضان"، فقال له عبد الملك: "ليس إلى ذلك سبيل"، فأنشد الأخطل:
ولستُ بصائم رمضان طوعاً
ولستُ بآكل لحم الأضاحي
ولستُ براحل عيساً بكاراً
إلى بطحاء مكة للنجاحِ
ولستُ بقائم أبداً أنادي
كمثل العير: حي على الفلاحِ
ولكني سأشربها شمولاً
وأسجد عند مبتلج الصباحِ
ورغم مسيحيته ورفضه الإسلام، فإنّنا نقرأ له في قصيدته الشهيرة (خفّ القطين)، التي يمدح فيها عبد الملك بن مروان، قوله:
الخائضِ الغَمْرَ، والمَيْمونِ طائِرُهُ
خَليفَة ِ اللّه يُسْتَسْقى بهِ المطَرُ
وعنى الأخطل بالغمر الحرب، وهي كناية عن التغلب على الأعداء والشدائد، وعبد الملك - في نظره - هو خليفة الله محفوف بتوفيقه، وهو مصدر اليمن والبركة وطائره ميمون، فإذا انحبس المطر استسقى الناس بذكر اسمه، فهل يسوغ لنا أن نفهم من هذا البيت أنّ الأخطل تخلى عن مسيحيته؟ فمن يعتقد في عبد الملك أنّه خليفة الله، ومصدر الغيث والبركات الإلهية، هل هو مسلم يؤمن بأنّ الخلافة أمر رباني، وقد قلده عبد الملك، أم هو مجرد مديح يستعير شيئاً من ثقافة الممدوح وعقيدته، ويتماهى مع عقيدة العقل الجمعي المحيط بالخليفة الأموي؟
وإذا أضفنا إليه قوله:
في نَبْعَة ٍ مِنْ قُرَيشٍ، يَعْصِبون بها
ما إنْ يوازَى بأعْلى نَبْتِها الشّجَرُ
أعطاهُمُ الله جداً ينصرونَ بهِ
لا جَدَّ إلاَّ صَغيرٌ، بَعْدُ، مُحْتقَرُ
فهل يرى الأخطل أنّ بني أمية أصل الشجرة الطيبة، وأشرف أحياء قريش قاطبة، والناس يجدون في ظلّ دوحتهم الأمن والاستقرار، وأنّهم بلغوا من الشرف والرفعة أن لا شجر أي قبيلة يدانيهم في المكانة مهما علا، وكلّ ذلك من عطاء الله لهم؟ وأنّ هذا الربط والتركيز الشديد بين ملوك بني أمية وبين الله، أو بينهم وبين الدين ليس أمراً اعتباطيًّا بل هو اعتقاد للشرعية الدينية لهم[9]. وهكذا بقية شعره؛ لذا فلا عجب أن يقلده عبد الملك بن مروان وسام شاعر أمير المؤمنين، ومن جميل ذكره أنّ الفرزدق ذكر عجز البيت كاملاً في إحدى قصائده قالها بعد أن أضحك سليمان بن عبد الملك منه يوم نبا سيفه عن الأسير، في قصيدة قال في مطلعها:
أيَعجبُ الناسُ أنْ أضْحكتُ خَيرَهمُ
(خَليفَةَ الله يُسْتَسقَى بِهِ المَطَرُ)
*الشاهد الثاني: نقرأ للشاعر أبي المستهل، الكميت بن زيد بن خنس الأسدي ( 60 - 126 ه = 680 - 744 م)، وهو شاعر الهاشميين، والذي تسمى قصائده في مدحهم بالهاشميات، والذي قال عنه أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني: "كان معروفاً بالتشيع لبني هاشم، مشهوراً بذلك"[10]، وذكر عن بعض المصادر: "كان الكميت شيعياًّ عصبياًّ عدنانياًّ من شعراء مضر"[11]، ومع هذا كان له في خلفاء بني أمية قصائد في المدح والفخر والرثاء، نكتفي بذكر شاهد منها هو قوله في هشام بن عبد الملك:
أبني أمية إنكم
أهل الوسائل والأوامرْ
ثقتي لكلّ ملمة
وعشيرتي دون العشائرْ
أنتم معادن للخلافة
كابراً من بعد كابرْ
بالتسعة المتتابعين
خلائفاً وبخير عاشرْ
وإلى القيامة لا تزال
لشافع منكم وواترْ
فهل نقول بأنّ الكميت كان يزوّر التاريخ بشعره؟ ويقلب الحقائق، ويلبس الباطل صورة الحقّ، والحقّ صورة الباطل؟ أم يسوغ لنا شعره أن نقول بـ (أموية الكميت) - كما رمى الخباز الفرزدق بذلك، (ص 105)، أم يا ترى هو شعر ألجأت إليه الضرورة السياسية؟
*الشاهد الثالث: نقرأ للشاعر أبي تمام، حبيب بن أوس بن الحارث الطائي ( 188 - 231ه = 804 - 846 م )، وهو من أجلاء الشيعة الإمامية، ونقل السيد الخوئي: "قال الجاحظ عنه في كتابه (الحيوان): حدثني أبو تمام الطائي وكان من رؤساء الرافضة"[12]، ورغم ولائه لأهل البيت (عليهم السلام) والذي لا يختلف فيه اثنان، والمجاهرة بمدحهم، ومع هذا فقد مدح - في المقابل - الخليفة العباسي المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد في فتح عمورية، فهل يعني هذا أنّ أبا تمام كان موافقاً للرواية العباسية القائلة بأحقيتهم في الخلافة على حساب أهل البيت (عليهم السلام)؟ حيث تُنسب الدولة العباسية إلى العباس بن عبد المطلب عم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبنو العباس هم الفرع الثاني من بني هاشم، أما الفرع الأول فهم العلويون، أبناء الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، والكلّ يعلم ما فعلت بنو العباس بأهل البيت (عليهم السلام)، حتى قال الشاعر:
تالله ما فعلتْ أمية فيهم
معشار ما فعلتْ بنو العباسِ
ومن قصيدة أبي تمام في فتح عمورية نقتطف الآتي:
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ
في حده الحد بين الجد واللعبِ
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشبِ
لقد تركتَ أمير المؤمنين بها
للنار يوماً ذليلَ الصخرِ والخشبِ
تدبير معتصمٍ باللهِ منتقمٍ
لله مرتقبٍ في الله مرتغبِ
رمى بك الله برجيها فهدَّمها
ولو رمى بك غير الله لم يصبِ
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة الدين والإسلام والحسبِ
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسبِ شبِ
ومدح المأمون العباسي، الذي اغتال الإمام الرضا (عليه السلام) في قصيدة مطلعها غزل ووصف لمعاناة شوق، ووسمه بالإمام في ظلّ وجود الإمام المعصوم، فمن بعض مقاطعها قوله:
أهلا وسهلاً بالإمام ومرحباً
سهلت حزونة كلّ أمر قرددِ
في دولة لحظ الزمان شعاعها
فارتد منقلباً بعيني أرمدِ
من كان مولده تقدم قبلها
أو بعدها فكأنّه لم يولدِ
الله يشهد أنّ هديك للرضا
فينا ويلعن كلّ من لم يشهدِ
أما الهدى فقد اقتدحت بزنده
في العالمين فويل من لم يهتدِ
نحن الفداء من الردى لخليفة
برضاه من سخط الليالي نفتدي
وفي قصيدة أخرى يمدح فيها المعتصم بقوله:
في الأرض من عدل الإمام وجوده
ومن النبات الغضّ سرج تزهرُ
إنّ الخليفة حين يُظلم حادث
عين الهدى وله الخلافة محجرُ
نظم البلاد فأصبحت وكأنّها
عقد كأنّ العدل فيه جوهرُ
ملك يضلّ الفخر في أيامه
ويقلّ في نفحاته ما يكثرُ
وقال يمدح أحمد بن المعتصم:
فالأرض معروف السماء قرًى لها
وبنو الرجاء لهم بنو العباسِ
القوم ظلّ الله أسكن دينه
فيهم وهم جبل الملوك الراسي
فرع نما من هاشم في تربة
كان الكفيء لها من الأغراس
ومدح الواثق بالله فقال:
هارون يا خير من يرجَّى
لم يطع الله من عصاكا
لو كان بعد النبي وحي
إلى ولي لكنتَ ذاكا
وأمثال تلك المدائح كثيرة في ديوان أبي تمام، فهل يجيز لنا شعره أن نقول: إنّ أبا تمام كان عباسي الهوى، متعصباً لبني العباس، ونحكم بعباسيته من خلال الديوان؟ فكثير من شعره ينطق بتشيعه لبني العباس، وليس لبني هاشم.
*الشاهد الرابع: نقرأ للشاعر العراقي عبد الباقي أفندي بن سليمان بن أحمد العمري الفاروقي الموصلي (1204- 1279 ه = 1790 - 1862 م)، والذي يمتد نسبه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وهو من أبرز ما أنجبت الأسرة العمرية الشهيرة في العراق، وديوانه يسمى (الترياق الفاروقي)، نجد له رائعته (أنت العلي) التي عُدّت من أرقى القصائد التي قيلت في أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وتم وضعها على قبة ضريح أمير المؤمنين بالنجف الأشرف، نقتطف منها:
أنت العلي الذي فوق العلى رُفعا
ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
وأنت حيدرة الغاب الذي أسد الـ
برج السماوي عنه خاسئاً رجعا
وأنت باب تعالى شأن حارسه
بغير راحة روح القدس ما قرعا
وأنت ذاك البطين الممتلي حكماً
معشارها فلك الأفلاك ما وسعا
وأنت ذاك الهزبر الأنزع البطل
الذي بمخلبه للشرك قد نزعا
وأنت يعسوب نحل المؤمنين إلى
أيّ الجهات انتحى يلقاهم تبعا
وأنت نقطة باء مع توحدها
بها جميع الذي في الذكر قد جُمعا
وأنت والحقّ -يا أقضى الأنام به-
غدا على الحوض حقاً تحشران معا
وأنت صنو نبي غير شرعته
للأنبياء إله العرش ما شرعا
وأنت زوج ابنة الهادي إلى سنن
من حاد عنه عداه الرشد فانخزعا
إلى أن يقول:
وأنت من فُجع الدين المبين به
ومن بأولاده الإسلام قد فُجعا
وأنت أنت الذي حطت له قدم
في موضع يده الرحمن قد وضعا
لئن توجع في يوم الطفوف لهم
فما سوى الله, والله اشتكى الوجعا
قد خادعوا منك في صفين ذا كرم
إنّ الكريم إذا خادعته انخدعا
والسؤال: فمن كانت هذه كلماته أليس يُحكم بتشيعه؟ مع أنّ العمري شاعر سني، ومع هذا فهو يقرّر بأفضلية أمير المؤمنين على جميع الصحابة، والمذهب السني يرى تفضيل الخلفاء الثلاثة، كما يقرّر أنّ علياًّ باب الله تعالى ويعسوب نحل المؤمنين، ومن حاد عنه وابتغى غيره فقد جانب الرشد، وبرحيله عن الدنيا فُجع الدين، ثم امتد الإسلام في أولاده، ويعبّر العمري عن توجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما جرى يوم الطفوف على الحسين (عليه السلام) وأصحابه، في إشارة منه إلى تجريم يزيد بن معاوية[13]، ويذكر صفين وما جرى من رفع المصاحف وخدعة عمرو بن العاص لمعسكر أمير المؤمنين، وبقاء معاوية متربعاً على خيرات إقليم الشام، فهل يسبغ الشرعية الدينية لأهل البيت (عليهم السلام) على حساب تسننه؟ أو نقول أنه سني يخفي تشيعه؟
*الشاهد الخامس: أحببتُ أن يكون مثالاً قريباً من الخباز ومن أبناء منطقتنا وهو الشيخ سعيد بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر أبو المكارم، الذي يقول في كتابه (دراسة الأحياء)، بعد أن تحدث عن الخليفة عمر بن الخطاب: "وقلتُ وأنا أقرأ هذه السيرة العطرة:
فأين مثل أبي حفص يثور على
الدنيا لكي تمَّحي منها التماثيلُ
ويجعل الأمة العلياء واحدة
تعيش صفواً، وقلب الكفر متبولُ"[14]
فهل الشيخ بهذين البيتين اللذين امتدح بهما الخليفة الثاني، وتمنى فيهما أن يعود الزمن بشخص مثله يزيل بالثورة أشكال الكفر ويوحد الأمة، يخالف رأي الشيعة القائل بأحقية أمير المؤمنين بالخلافة؟ وهل يرى الثورة طريقة للحكم وتوحيد الناس مقابل قول الشيعة بأنّ الخلافة منصب الهي مجعول من قبل الله؟
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>الصدق الفني عند الفرزدق
والأمثلة تطول، ولكن يبقى السؤال: هل كان الفرزدق ذاته ملتفتاً إلى الفرق بين الصدق الفني والصدق الواقعي؟ والجواب: يمكن القول - وبضرس قاطع -: نعم. كان ملتفتاً أيّما التفات، وشاهدنا ما جرى في حضرة الخليفة سليمان بن عبد الملك حيث أنشده قصيدة ميمية، فلما انتهى منها إلى قوله:
خرجن إليّ لم يُطمثن قبلي
وهن أصحّ من بيض النعامِ
فبتن بجانبيَّ مصرعات
وبتّ أفضّ أغلاق الختامِ
ثلاث واثنتان، فهن خمس
وسادسة تميل إلى سمامِ
كأنّ مفالق الرمان فيها
وجمر غضى جلسن عليه حامِ
فقال له سليمان: "قد أقررتَ عندي بالزنا وأنا إمام، ولا بد من إقامة الحد عليك". فقال الفرزدق: "ومن أين أوجبت علي يا أمير المؤمنين؟" فقال: "بقول الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾". [النور:2]، فقال الفرزدق: "إنّ كتاب الله يدرؤه عني بقوله تعالى: ﴿الشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء:224-226]، فأنا قلتُ ما لم أفعل"، فتبسم سليمان وقال: أولى لك[15].
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>معايير غير علمية
دعنا نقف قليلاً عند المعايير التي اعتمدها الخباز في الوصول إلى قناعته، لنرى ما إذا كانت هذه المعايير صادقة وتوصل للمعرفة، أم يشوبها قدر من الضعف يكون مآله قراءة ناقصة ورؤية قاصرة تجعل من الصعب القبول بالنتيجة. فقد استبعد الخباز الروايات التي يرد فيها الفرزدق وأحد أفراد أهل البيت (عليهم السلام)، والروايات الأخرى سواء ما يتعلق بحياته، أو بعلاقته بالأمويين، أو بشخصيته، بحجة أنّها روايات تحتمل الصدق والكذب، واتخذ من ديوانه وثيقة أساسية ووحيدة، للحكم عليه بأنّه أموي الهوى. ص: 101.
والسؤال: إذا كانت الروايات تحتمل الصدق والكذب، فهل ديوان الفرزدق الذي بين أيدينا قطعي الصدور لا يحتمل الكذب؟ هل هو ثابت بحيث أنّ يد التحريف والتزوير والبتر لم تنل منه؟ وهل يستطيع أحد الجزم بأنّ هذا الديوان بحلته الحالية يضم كلّ شعر الفرزدق؟ ألم يعبث به المغرضون فأدخلوا وأخرجوا كما تشتهي الأهواء السياسية والدينية؟
وإذا كان شعره يمثل ثلث العربية، ونصف أخبار الناس فأين ذلك من ديوانه؟ أين الشواهد الشعرية المنسوبة للفرزدق التي تعجّ بها المعاجم اللغوية، وكتب اللغة والأدب والنحو والتاريخ والبلدان والتفسير؟ ما بالها لا تحتلّ موقعاً في ديوانه؟ وغيرها من الإشكالات. ولا يخفى أنّ قضية التشكيك في الأبيات الشعرية التي تُنسب لغير أصحابها فيما عُرف بـ (قضية الانتحال)، قديمة قدم الشعر لم تسلم منها حتى المعلقات على رأي، واتُهم بها أناس مثل حماد الراوية وغيره.
وشعر الفرزدق عصفت به الكثير من المؤاخذات من جهة اتهام الفرزدق بسرقة الشعر، في زمن أصبحت سرقة الشعر ظاهرة تلطخت بها أبيات كثير من شعراء العصر الأموي، والحقّ أنّ الفرزدق قد أغار على شعر غيره، كما أنّ الآخرين أغاروا على شعره، من باب (كما تدين تدان)، وقد ادعى الفرزدق على جرير السرقة فقال:
إنّ استراقك يا جرير قصائدي
مثل ادعاك سوى أبيك تنقلُ
وقد رد عليه جرير بأنّه هو من يسرق قصائده وينسبها لنفسه:
سيعلم من يكون أبوه قيناً
ومن عرفت قصائده اجتلابا
ومن أشعاره وهو في ذروة الهجاء:
ألم تخبر بمسرحي القوافي؟
فلا عِيّاً بهنّ ولا اجتلابا
وكلمة (اجتلاباً) تدلّ على أبشع أنواع السرقة الشعرية؛ لأنّ الجلب في اللغة سَوق الشيء من موضع إلى آخر، حيث يقوم الشاعر بجلب شعر غيره، ويستمده لينسبه إليه (الانتحال)، حتى تحامل الأصمعي (122-216 ه=740-831 م) كثيراً على الفرزدق بقوله: "تسعة أعشار شعره سرقة، قال وأما جرير فله ثلاثون[16] قصيدة ما علمته سرق شيئاً قط إلا نصف بيت"[17]، لكنّ الفرزدق عنيد يرفض انتحال الشعر، وقد هجا جريراً وقومه به:
لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم
وأوابدي بتنحل الأشعار
يضاف إلى ذلك كون الفرزدق أحد أهم شعراء النقائض (جرير والفرزدق والأخطل) في عصره، وهذا الأمر يجعل من الصعب دراسة شعره بمعزل عن الدوافع الشخصية والقبلية والسياسية والاجتماعية والعقائدية والسياقات التاريخية، وغيرها التي هي مخاض لمثل هذا الشعر، وهذه الدوافع والسياقات لا نجدها غالباً إلا في الروايات، ومن طبيعة شعر النقائض أن ينقض الشاعر قصيدة غريمه بقصيدة تطابقها في الوحدات الثلاث: وحدة الموضوع، ووحدة الوزن، ووحدة الروي، فكلّ بيت في القصيدة يقابله بيت في قصيدة الآخر لكنّه يختلف معه معنى، مما يجعل من مساحة الالتقاء كبيرة بين الشاعرين بمرور الزمن، إلى درجة التطابق في قاموس المفردات المستعملة بينهما، ويكثر توارد الخواطر المشتركة، إلى حد القول بالاستنساخ؛ لأنّ التقارب الثقافي يولد التشابه الشعري، ولهذا يقال: إنّ جريراً والفرزدق كانا ينطقان على ضمير واحد[18].
فضلاً عن ولع الفرزدق بالهجاء، الذي ألب عليه القلوب، فكثُر أعداؤه والساخطون عليه، خصوصاً في أوساط القبائل التي سلقها بلسانه الحاد، فهو في هجائه لشخص إنّما يهجو قبيلة هذا الشخص بأسرها، مما يرفع من رصيده في اجتذاب السخط، ومحاولة الإطاحة به، كلّ تلك الأمور تجعل من شعر الفرزدق محلاً للصدق والكذب، وربّما كانت الروايات بشأنه أوثق في الركون إليها من شعره على ما اعتراه من العوارض.
وما أعجب له أنّ الخباز يشكك في القصيدة الميمية ويعتبرها شاذة، بل هي - على قولٍ - للحزين الليثي، أو أنّ الفرزدق أنشدها في الحسين أو ابنه زين العابدين (عليه السلام)، ثم يعتبر ديوان الفرزدق وثيقة يتيمة يركن إليها في تحديد هويته الدينية، بعيداً عن تجربة الشاعر التي أفرزت الشعر، وإذا سلمنا بهذا التشكيك في القصيدة الميمية فهي دعوى قدح واضحة وصريحة لجملة أشعار ديوان الفرزدق، ورميه بوجود خلل في ضبط أشعاره والذي يعني عدم مصداقيته.
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>القصيدة الميمية
ذكر الخباز فيها نقطتين:
النقطة الأولى: ظنّ الكثيرون أنّ الفرزدق: "كان شيعي الهوى، بسبب قصيدته الميمية المشهورة في مدح الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)، أو في الإمام الحسين (عليه السلام) حسب بعض الروايات غير المشهورة". ص: 100. ثم ذكر: "لا يوجد في ثنايا قصائده - إذا استثنيا الميمية - ما يشير إلى أنّه يتبنى فكرهم، أو يمشي في طريقهم، أو يعارض أعداءهم، مما أدى إلى تشكيك بعضهم في نسبة الميمية للفرزدق، والقول بأنّها للحزين الليثي، قالها في قثم بن العباس، وأنّ الفرزدق أنشدها في علي بن الحسين". ص: 101.
النقطة الثانية: "إنّ قصيدته الميمية هي قصيدة شاذة عن نسق القصائد الأخرى في الديوان، أو النسق الشعري للفرزدق, بعبارة أخرى فلا يوجد في ديوانه أي قصائد أخرى تمدح أهل البيت من الذين عاصرهم كالإمام علي والحسن والحسين". ص: 101.
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>النقطة الأولى: القصيدة ليست في مدح الحسين (عليه السلام)
القصيدة الميمية للفرزدق لم تكن في مدح مولانا الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّ كلّ تلك الروايات التي نطقت بالتشكيك غير مشهورة, ولا تنسجم مع الواقع التاريخي لحياة الفرزدق من جهة، ولا ينسجم مقال بعض أبياتها في حقّ الحسين (عليه السلام) من جهة أخرى، وهو قول ضعيف أكده المحققون وذوو العلم، وقد ذكر الخباز رأي التشكيك هذا نقلاً عن كتاب (الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة)، للسيّد علي خان المدني، بيد أنّه لم يكمل تمام قوله في هذا الرأي، مما قد يوهم القارئ بأنّ المدني يتبنى هذا القول، والمدني كان في مقام عرض هذا القول كقول من الأقوال، ثم أردف قوله بتضعيفه، وبيان مدى الوهن فيه، وإليك نصّ عبارته:
"هكذا نسب هذه القصيدة للفرزدق في الحسين "ع" الشيخ كمال الدين بن طلحة في (مناقبه) قال الشيخ علي بن عيسى القمي (ره)، وأظنّه نقل هذا الكلام والقصيدة من كتاب (الفتوح) لابن أعثم فإنّه نسب القصيدة إلى الفرزدق في الحسين أيضاً, والذي عليه الرواة مع اختلاف كثير في أبياتها أنّها للحزين الليثي قالها في قثم بن العباس، وأنّ الفرزدق أنشدها في علي بن الحسين, قال المؤلف (عفا الله عنه): أما كون القصيدة بتمامها في قثم بن العباس فأمر يشهد بعض أبيات القصيدة باستحالته كما تراه, وأما إنشاد الفرزدق لها في علي بن الحسين فقد ذكره كثير من رواة الأخبار والمؤرخين"[19].
ومن أشهر رواة هذه الرواية أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في كتابه الموسوم (المعجم الكبير)[20]، أوردها في ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد علق عليه ابن كثير في (البداية والنهاية) فقال: "هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في معجمه الكبير وهو غريب، فإنّ المشهور أنّها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه؛ فإنّ الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق، فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدم، ثم إنّ الحسين قُتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت؟, والله أعلم"[21].
أما القول بأنّها للحزين الليثي قالها في قثم بن العباس، فقد كفانا السيّد محسن الأمين في كتابه (أعيان الشيعة) مؤونة البحث والنظر، فبعد تحقيق أسانيدها وصل سماحته إلى حقيقة أنّ: "نسبة هذه القصيدة إلى الفرزدق مشهورة جدًّا، بل لعلّها متواترة، وقد رواها السيّد المرتضى في موضعين من أماليه، والمرزباني في (معجم الشعراء) والقيرواني في (زهر الآداب)، ورواها أبو الفرج في (الأغاني) بسنده عن ابن عائشة"[22]، وذكر أيضاً: "فقد اتضح أنّ الأبيات الممدوح بها علي بن الحسين (عليه السلام) هي للفرزدق لا للحزين، وأنّ البيتين المتقدمين وهما (بكفه خيزران) و(يغضي حياء) ليسا منها، وإنّما هما للحزين في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وإدخالهما في أبيات الفرزدق اشتباه. ولقد أجاد أبو الفرج الأصبهاني في قوله المتقدم: إنّ هذين البيتين ليسا مما يمدح به مثل علي بن الحسين (عليه السلام) لاسيما البيت الأول"[23]، ثم علل أسباب وقوع هذا الاختلاف قائلاً: "واعلم أنّه وقع اختلاف، أيضاً، في نسبة هذه الأبيات, فبعضهم نسبها إلى الحزين الليثي، وبعضهم إلى الفرزدق، وسبب ذلك أنّ الحزين له أبيات في بعض بني أمية على هذا الوزن وهذه القافية, فوقع الاشتباه لذلك, فنسبت أبيات الفرزدق إلى الحزين, وزيد فيها بعض أبيات الحزين، ومن الرواة من زاد من أبيات الحزين في أبيات الفرزدق ناسباً لها إلى الفرزدق. وهذا كما وقع في أبيات أبي الأسود الدؤلي التي رثى بها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأبيات أم الهيثم النخعية التي على وزنها وقافيتها في رثائه (عليه السلام)، فأدخل من إحداهما في الأخرى، كما أشرنا إليه في (المجالس السنية)، قال أبو تمام في (الحماسة)، قال الحزين الليثي في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأورد الأول والخامس والسادس والثامن، وزاد فيها البيتين المتقدمين (بكفه خيزران) و (يغضي حياء)"[24].
وذكر الشيخ محمد أبو زهرة (1316 - 1394 ه = 1898 - 1974 م ): "لقد روت كتب التاريخ والسيَر والأدب هذه القصيدة منسوبة إلى الفرزدق الشاعر، ولم يتشكك الرواة والمؤرخون في نسبتها إليه، وأكثر كتب الأدب لم تثر عجاجة شك حولها"[25].
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>النقطة الثانية: القصيدة الميمية شاذة عن نسق الديوان
القصيدة الميمية يتيمة الديوان في نسقها، ولا يوجد في ديوانه المطبوع أيّ قصائد أخرى تمدح أهل البيت من الذين عاصرهم كالإمام علي والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، وحتى نفهم السرّ وراء ذلك نحتاج لمعرفة النسق التاريخي الذي عاشه الفرزدق، وهذا ما استبعده الخباز، فشعرُ المديح ليس وليد الصدفة، ولا يكون دون دوافع اعتبارية تجعل من الشاعر ينظم قصيدته متأثراً بتلك الدوافع والأسباب.
ولو سلطنا المجهر على حياة الفرزدق، فهو من أسرة عُرفت بولائها لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وحبّها لبني هاشم، وقد اتُهم بضعف الانتماء؛ لأنّه تقلب بانتمائه بين الأحزاب السياسية في العصر الأموي، (وإذا عُرف السبب بطل العجب)، وهو أمر ليس بخفيّ، فقد كان عصر الدولة الأموية يمثل عصر القمع الشيعي بما في الكلمة من معنى، بحيث لا يجرؤ أيّ شاعر أن يصرح بانتمائه، فضلاً عن أن ينظم بيتاً واحداً في مدح أهل البيت (عليهم السلام)، فكان لا بد من التقية لحقن الدم، وهذا ليس لجبن وعدم الشجاعة من الفرزدق, وإنّما هو موقف رفعة من الله نابع من عقيدة وإيمان، وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): "التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له"[26].
ولتوضيح الصورة أكثر، وحتى لا نذهب بعيداً لا بأس أن نذكر واقع الشيعة في عهد الفرزدق، كما بيّنه المدني في مقدمة كتابه (الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة)، وسبب اختياري له دون البحوث الأخرى اعتماد الخباز عليه كمصدر في توثيق كلامه.
لقد ذكر المدني حديثاً طويلاً يقشعر لهوله البدن، أقتطف منه ما يخدم الغرض، يقول رحمه الله: "اعلم رحمك الله أنّ شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) لم يزالوا في كلّ عصر وزمان ووقت وأوان، مختفين في زوايا الاستتار, محتجبين احتجاب الأسرار في صدور الأحرار, وذلك لما مُنُوا به من معاداة أهل الإلحاد، ومناواة أولي النصب والعناد، الذين أزالوا أهل البيت (عليهم السلام) عن مقاماتهم ومراتبهم, وسعوا في إخفاء مكارمهم الشريفة ومناقبهم... كما رُوى عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال لبعض أصحابه: "يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس... ثم لم نزل - أهل البيت - نُستذل ونُستضام، ونُقصى، ونُمتهن، ونُحرم، ونُقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا, ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء وعمال السوء في كلّ بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة, ورووا عنا ما لم نقله، وما لم نفعله ليبغِّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام)، فقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وصار من ذُكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن, أو نهب ماله, أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة, وأخذهم بكلّ ظنة وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يُقال له شيعة علي.
وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي يوسف المدايني في كتاب (الأحداث) قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: (أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته)، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منير يلعنون عليًّا ويبرؤون منه. ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام)، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضم إليها البصرة، وكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف؛ لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام), فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر, وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل, وسمل العيون, وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم من العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم, وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: (أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي (عليه السلام) وأهل بيته شهادة). وكتب إليهم: (أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدْنوا مجالسهم, وقرّبوهم وأكرموهم, واكتبوا إليّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته)، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطايع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا, فليس يجئ أحد بخبر مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة الا كتب اسمه وقربه وشفعه... ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: (انظروا من قامت عليه البينة أنّه يحبّ عليًّا وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاه ورزقه), وشفع ذلك بنسخة أخرى: (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به، واهدموا داره). فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولاسيما بالكوفة، حتى أنّ الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته, فيلقى إليه بسره, ويخاف من خادمه ومملوكه, ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه... ولم يزل كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلا خايف على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (عليه السلام) وولى عبد الملك بن مروان, فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والذين يبغضون عليًّا (عليه السلام)، ويوالون أعداءه، فأكثروا من الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من علي (عليه السلام) وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج، ويُقال أنّه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب، فصاح به: (أيّها الأمير إنّ أهلي عقّوني، فسموني علياًّ، وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج)، فتضاحك له الحجاج، وقال: (للطف ما توسلت به، وقد وليتك موضع كذا).
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه - وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه - ما يناسب هذا الخبر وقال: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أمية تقرّباً إليهم بما يظنون أنّهم يُرغمون به أنوف بني هاشم. قال المؤلف (عفا الله عنه): ولم يزل الأمر على ذلك سائراً في خلافة بني أمية حتى جاءت الخلافة العباسية، فكانت أدهى وأمرّ، وأخزى وأضرّ"[27].
وقد أكد هذه الحقيقة التاريخية العديد من الرواة، نكتفي بذكر قول أبي الفرج الأصبهاني: "وقد رثى الحسين بن علي - صلوات الله عليه - جماعة من متأخري الشعراء استغني عن ذكرهم في هذا الموضع كراهية الإطالة. وأما من تقدم فما وقع إلينا شيء رُثي به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بني أمية، وخشية منهم"[28].
وأعتقد أنّ صاحبنا الخباز قد وجد ضالته - والحكمة ضالة المؤمن - في طيات الكلام السابق، وأقصد جواب سؤاله وهو: "كيف أنّ الفرزدق يتبنى الرواية الأموية التي تقول بحقّ معاوية بالطلب بدم عثمان الذي مات مظلوماً؟" ص: 102، لقد اضطُر الشعراء لتعليق (قميص عثمان) في قصائدهم كما علقه معاوية وبنو أمية ليحفظ وجودهم.
هكذا نجد الفرزدق في النسق التاريخي مضطرًّا لمديح مثل هؤلاء، وأخذ عطاياهم شأنه شأن بقية الشعراء المتكسبين، ومع كونه من أسرة ثرية، وذات جاه عريض إلا أنّه وجد نفسه، إن لم يمدح بني أمية، مارسوا ضده سياسة الإقصاء والتهميش كما هو حال بقية العلويين في عصره، فلم يشذ عن بقية شعراء ذلك الزمان في مدحهم للخلفاء الأمويين، بغض النظر عن مشاعرهم الحقيقية، فضلاً عن التفكير في تصفيته ومحو اسمه من ذاكرة التاريخ، وربما كنّا اليوم لا نسمع بذكر الفرزدق، وحيث أنّه شاعر يُشار إليه بالبنان، ورقم صعب لا يمكن تجاوزه، ولا بد للحكومة الأموية أن تعرف رأيه وموقفه بكلّ صراحة ووضوح من شرعية الخلافة، كما تفعل الكثير من الحكومات اليوم مع المعارضة وأصحاب النفوذ والوجاهة حين تطالبهم ببيان مواقفهم بإعلان الولاء أو الشجب والاستنكار لكلّ المظاهر التي تتعارض وقيم هذه الحكومات، فكان يمدحهم خوف سطوتهم.
وإنّني لأتساءل: إذا كان الفرزدق قد ألزمته الضرورة أن يكون شاعراً في البلاط الأموي، فهل يعد ذلك جريمة ثقافية؟ وهل كلّ من ينشد الشعر في بلاط السلطات السياسية يقوم بوظيفة البوق الإعلامي لتلك السلطات؟ أم أنّ بعض شعراء الساسة مجبرون من باب (مكره أخاك لا بطل)، والأمثلة على ذلك قديماً لا تكاد تحصى، وحديثاً. ففي فمي ماء، وكأنّ لسان حال هؤلاء الشعراء: يقول: "إن نظمنا الشعر فتلك مصيبة، وإن لم ننظمه فالمصيبة أعظم".
الفرزدق إنسان قرأ الواقع، وانسجم معه كأيّ شاعر آخر في زمنه، ورغم إدراكه للفكر السياسي الأموي وخطره، فهو - مع ذلك - حاول أن يحافظ على بعض كبريائه، ويعبّر عن مدى احتقاره لخلفاء بني أمية، فكان لا ينشد الشعر بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعداً، وأراد سليمان بن عبد الملك أن يقيمه، فثارت طائفة من تميم، فقالوا: لا ينشد الفرزدق قائماً وأيدينا في مقابض سيوفنا، فأذن له بالجلوس[29].
ولو رجعتَ لديوانه لرأيتَ كيف كان يعدل من مدحهم إلى مدح قومه، وهذه أكبر شهادة على تملقه في مديحهم، والأمثلة جمة على ذلك، نكتفي بذكر مثال: يُقال: "إنّ سليمان بن عبد الملك سأله ذات مرّة: ما أحدثتَ بعدنا يا أبا فراس؟، فتململَ الفرزدق وأنشد:
وركبٍ كأنّ الريحَ تطلبُ عندهمْ
لها تِرَةً مِن جذبِها بالعَصائبِ
يعضون أطراف العصي كأنّها
سَرَوْا يخبطون الليلَ وهي تلُفُّهم
على شُعَبِ الأكوارِ من كلِّ جانبِ
إذا ما رأوا ناراً يقولون: ليتَها
وقد خصرتْ أيديهمُ، نارُ غالبِ
وما إن سمع سليمان الأبيات حتى اسودّ وجهه، وغاظه فعل الفرزدق، وكان يظنّ أنّه ينشده مديحاً له"[30].
وفضلاً عن العدول من المدح إلى الهجاء، فمَن مدَحهم عاد ليهجوهم بعد موتهم أو في حياتهم بعد زوال خوفه منهم، فقد هجا هشام بن عبد الملك[31]، والحجاج بن يوسف الثقفي[32]، وعمر بن هبيرة الفزاري[33]، وخالد بن عبد الله القسري[34]، وغيرهم.
يقول عمر فرّوخ (1906-1987م) في تأريخه للأدب العربي: "لا بُد من القول بأن شعر الشعراء الأمويين كان شعرَ تكسّبٍ في الدرجة الأولى، وكان لا يعبّر عن عاطفة صحيحة في معظم الأحيان"[35]. ويقول أيضاً: "انضمّ الفرزدق إلى شعراء الأمويين تكسبّاً لا اعتقاداً"[36].
ولو فرضنا، جدلاً، أنّه كان أمويًّا فاسقاً، فإنّما المرء يُحكم بعاقبته، فالفسق في ذاته لا يسلب المرء عقيدته، وإن كان يعيبه وينقص من شأنه، وإذا كان المجون والمجاهرة به قد احتلّ موقعه من شبابه، فإنّه قد تاب في أواخر عمره، وخصوصاً بعد قصيدته الميمية التي كانت تمثل انعطافة مغايرة لحياته تجاه التوبة والتقوى، وقد قال الشريف المرتضى (رضي الله عنه): "وكان شيعيَّا مائلاً إلى بني هاشم، ونزع في آخر عمره عما كان عليه من القذف والفسق، وراجع طريقة الدين، على أنّه لم يكن - في خلال فسقه - منسلخاً من الدين جملة، ولا مهملاً أمره أصلا"[37].
وحتى ابن خلكان الذي أغرق الفرزدق في المثالب يذكر قصيدته بالقول: "وتُنسب إليه مكرمة يُرجى له بها الجنة"[38].
وتكفينا شهادة المعصوم في حقه، وإطراؤه عليه، وبذل المال له، ونصرته بعد إلقاء القصيدة، وهذه الأمور لا تصدر من المعصوم عبثاً، ولو علم منه الأموية وخلاف الإيمان لما سعى في إطلاق سراحه من السجن، وتكفّل بعطائه، فقد "كان عبد الملك يصله في كلّ سنة بألف دينار، فحرمه تلك السنة، فشكا ذلك إلى علي بن الحسين (عليه السلام)، وسأله أن يكلّمه، فقال: أنا أصلك من مالي بمثل الذي كان يصلك به عبد الملك، وصنِّي عن كلامه"[39]، بل إنّ رجال الحديث يعدون الفرزدق من أصحاب السجاد[40]. وعده أبو عبيد الله المرزباني الخراساني (297-384ه=910-994م) شيعياً، في كتابه: (أخبار شعراء الشيعة) الكتاب الذي ذكر فيه أخبار الشعراء من الشيعة الإمامية وقضاياهم، وصنفه المرزباني في سبعة وعشرين شاعراً، واستهل كلامه بقوله: "كان شيعياً, وكان الأصمعي يذمه بذلك, غير أنه لم يكن مظهراً لذلك كثيراً لخوفه من بني أمية"[41].
ولا بأس بنقل ما روي بعد هذه القصيدة المرتجلة التي كان الفرزدق، حينها، كالبركان الثائر بعد أن ضاق ذرعاً، فلم يعد يحتمل، وانطلقت كلماته بين الركن والمقام؛ لتكشف صدق سريرته، وعمق ولائه لأهل البيت (عليهم السلام)، فقد روى محمد بن الفتّال النيسابوري: "فغضب هشام، وأمر بحبس الفرزدق، فحُبس بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين (عليه السلام)، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم. وقال: "اعذرنا - يا أبا فراس - فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به"، فردها، وقال: "يا بن رسول الله، ما قلتُ الذي قلتُ إلا لرضا الله ورسوله، وما كنتُ لآخذ شيئاً"، فردها إليه، وقال: "بحقي عليك لما قبلتها، فقد رأى الله مكانك، وعلم نيتك"، فقبلها، فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس، فكان مما هجا به قوله:
أتحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد
وعين له حولاء باد عيوبها
فبعث إليه فأخرجه"[42].
وينقل ابن كثير: "فغضب هشام من ذلك، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان، بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها وقال: "إنّما قلتُ ما قلتُ لله (عز وجل) ونصرة للحق، وقياماً بحقّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذريته، ولستُ أعتاض من ذلك بشيء". فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: "قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمتُ عليك بالله لتقبلنّها"، فتقبلها منه"[43].
وفي مستدرك الوسائل: "فبعثه هشام، وحبسه ومحا اسمه من الديوان، فبعث إليه علي بن الحسين (عليه السلام) بدنانير فردها، وقال: "ما قلتُ ذلك إلا ديانة، فبعث بها إليه، أيضاً، وقال: "قد شكر الله لك ذلك". فلما طال الحبس عليه، وكان يوعده القتل، فشكا ذلك إلى علي بن الحسين (عليه السلام)، فدعا له فخلصه الله، فجاء إليه وقال: "يا بن رسول الله، إنّه محا اسمي من الديوان"، فقال: "كم كان عطاؤك؟" قال: "كذا، فأعطاه لأربعين سنة"، وقال (عليه السلام): "لو علمتُ أنّك تحتاج إلى أكثر من هذا لأعطيتك". فمات الفرزدق بعد أن مضى أربعون سنة"[44].
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>
#0000cc ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: 'Times New Roman'; mso-hansi-font-family: 'Times New Roman'" lang=AR-SA>لا وجود لقصائد في مدح أهل البيت (عليهم السلام)
هل عدم وجود قصائد مديح في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) في ديوان مطبوع للشاعر يخرجه من التشيع؟ بالطبع لا، وإلا لكان السواد الأعظم من شعراء الشيعة خارج دائرة التشيع، ولسنا هنا بصدد دراسة سبب وجود هذه الظاهرة، وهل نسأل الخباز: لماذا خلا ديوانك الوحيد المطبوع (سيرة وعي) من أيّ قصيدة في مدح ورثاء أهل البيت؟ وهل يسوغ لنا دراسة صدق تشيعك بناء على ذلك؟ أينك من عشرات الشعراء من أبناء القطيف الذين طبعوا دواوينهم الشعرية، فلم نشاهد فيها قصيدة واحدة في حقّ أهل البيت؟ وكلّهم شعراء لهم تجربتهم العريقة في الشعر، أمثال الشاعر محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي، طبع من الشعر سته دواوين، ولا يوجد فيها قصيدة واحدة تخصّ أهل البيت (عليهم السلام)، ولو فتشت المجموعة الكاملة للشاعر عبد الله علي الجشي، فسوف تكتشف ذات الأمر، وغيرهم كالسيّد عدنان السيد محمد العوامي في ديوانه الوحيد (شاطئ اليباب)، ومحمد سعيد المسلم في ديوانه (عندما تشرق الشمس)، ومحمد رضي الشماسي في ديوانه (عنوان الحبّ)، وغيرهم من الرموز الشعرية.
ويجب التنويه أنّي حين أذكر هؤلاء الشعراء والأدباء بمن فيهم السيّد الخباز، فذاك ليس من باب الاستنقاص من شأنهم، فهم أكبر من كلّ ذلك، فقد قرأتُ لبعضهم قصائد تقطر ولاء في حبّ أهل البيت (عليهم السلام) خارج ما طُبع من دواوينهم، ولكلٍّ أسبابه التي تبرّر عدم نشر شعره الولائي في دواوين شعرية خاصة، وإنّما أحببتُ أن آتي بمثال قريب من أبناء جلدتنا؛ لأؤكد أنّ الشعر لا يمكن أن يُدرس بمنأى عن الأجواء المختلفة للشاعر، وأنّ الديوان المطبوع لا يمثل كلّ تراث الشاعر، ولا يعكس مذهبه العقدي، وأنّ القلة والكثرة في الشعر الديني ليس بالضرورة أن تكون مقياساً تحكم به عقيدة الشاعر.