جريدةٌ في يدِ أمِّيٍّ
عاش الحاج سلمان شظف العيش، مثله مثل الكثير من أبناء جيله، فكان يتنقّل من مهنة إلى أخرى؛ ليعين أفراد أسرته، إذ لم تُتَحْ له الفرصة؛ ليلتحق بسلك المتعلمين. ففي صغره كان يعمل مع والده في مزرعة العائلة، قبل أن يضع أحد الإقطاعيين الكبار يده عليها، ولم يجد حينها خيارًا؛ إلاّ أن يلتحق بركب البحّارة.
ومع مشّقة الحياة، وقلة الأجر الذي يتقاضاه، وجد فرصته في العمل مع شركة أجنبية، احتاجت يومها؛ لعدد كبير من العمالة في منتصف الستينيات الميلادية.
في محطته الجديدة هذه، اكتسب معارف وخبرات عديدة، لم يشهدها في قريته الوادعة، ففيها عرف الإذاعة والتلفاز، وتسنى له أن يطلِّع على ثقافات شعوب أخرى عبر الشاشة الفضيَّة، كما كان يستمع لبرامج منوعة في الإذاعة، إضافة لنشرة الأخبار التي أدمنها. وبلغت سعادته ذروتها، حين أهدته الشركة تلفزيونًا خاصًّا به، بعد كتابة تقرير يُشيد بأدائه المتميز فيها؛ ليصبح بيته فيما بعد مقصدًا للجيران الذين أصبحوا يتوافدون، زرافاتٍ ووحدانا؛ ليكحلوا أعينهم، بما يسلب الفكر ويشخص البصر، من الأفلام العربية والأجنبية.
ومع تراكم تجارب الحاج ومعارفه؛ إلاّ أنه بقي أميًّا، ليس بمقدوره فكّ الحرف. لكنه، ظلّ شغوفًا، بملاحقة كل جديد، من أجل تطوير قدراته وتنمية مواهبه. ومن الطريف أنه سمع -لأول مرة- بمصطلح (الجريدة)، في الشركة التي يعمل فيها، وهو يرى المتعلمين من أقرانه، يقرؤونها. أما هو، فلم يكن بمقدوره إلاّ أن يمعن النظر في الصور التي تحتويها!
قبل أن يعود الحاج سلمان لمنزله أصّر على أن يبتاع جريدة؛ كبقية المتعلمين، وكانت علامات الفرح والسرور تغمرانه، وهو يتأبطها. وعندما أقبل ولده الصغير من بيت الجيران، احتضنه بمحبة، وباح له بسرٍّ في أذنيه: «يا ولدي: لقد أحضرت لك جريدة، ستجدها في المجلس على الحصير».
- أبي.. لم أجد الجريدة؟
- إنها هناك، تعال معي لتراها.. ها هي، خذها.
- هذه مجرد كومة أوراق، ليس بوسعي أن امتطيها للسباق!
- يا ولدي.. إنها جريدة للقراءة والمعلومات، وليست مجرد عصا من سعف النخلة ، كما تتوهم.
- قولك صحيح يا أبي، فقد كُتب في منتصفها بالخط العريض: جريدة الـ...
- ألم أقل لك إنها جريدة؟
- وماذا سأفعل بها يا أبي؟
- سأشتريها لك؛ لتقرأها يوميًّا، ولا تبخل بقراءتها لأبيك؛ لتعوِّضه عن أمِّيته.