الخطيئة.. أُولى ثِمار الإنسان

 

﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ الزخرف:23.

إن أفكار آبائنا تعيث خلوداً في دواخلنا، ببساطة هي معاييرنا للحكم على الأشياء.

وبين ملايين من الأفكار التي بمقدورنا أن نختار منها ما نشاء؛ ننحاز في الغالب لأفكار آبائنا وأجدادنا التي هي بمثابة المقياس الأمثل لاختبار الأفكار، ومن ثم الميل إلى ما هو أكثر تناغماً وانسجاماً مع معاييرهم.

فهل نحن مسيرون؟ ربما لا..ولكن من المؤكد أننا مسيرون وفقاً لاختياراتنا، أو بتعبير آخر، إننا نلبي بكل طواعية إلحاح طبيعتنا المكتسبة عبر التربية.

وعندما نفاضل بين خيارين، وننحاز لأحدهما على حساب الآخر، ونستشعر من خلال ذلك العمل الذي قمنا به انسجاماً مع الذات وسلاماً داخلياً يستجلب لنا الطمأنينة والسكينة، ومن ثم نتساءل في حيرة عن سرّ هذا الشعور الجميل الذي يملأنا بياضاً، سنجد ببساطة: إن العمل الذي قمنا به تناغم - بوعي أو بلا وعي، مع معايير الحسن و" الخير" وفقاً للإيحاء الاجتماعي وأنساقه، والعكس صحيح.

فلا الحَسَن ولا القبيح لهما معايير موضوعية ثابتة؛ لأن كليهما يخضع لسطوة الإيحاء الاجتماعي.

وحتى الأفكار التي نزعم أننا آمنا بها بمَحْض إرادتنا هي نتيجة تكاد تكون حتمية لطبيعتنا المكتسبة عبر التربية أيضاً.

وما كانت لتكتسب رسوخاً متجذراً في دواخلنا لولا فعل التكرار والتعزيز وارتباطها بالمشاعر والصور الذهنية التي عايشناها في مرحلة عمرية معينة.

وبالآليات نفسها يمكننا خلق أو استنبات أفكار جديدة ومغايرة تماماً، وربما إيجابية، لو شئنا ذلك.

ومن الأفكار الشائعة في علم الاجتماع: إن الفرد الذي يؤمن بأفكار مشكوك في صحَّتها (ليست ذات أساس موضوعي)، لا لأن لديه مبرِّرات قويَّة لذلك، وإنما لأن أسباباً لا واعية تدفعه لذلك، (الأسباب اللاواعية في الغالب تكون نتيجة لرواسب الإيحاء الاجتماعي: عقائد، أفكار، عادات وتقاليد، مكبوتات..إلخ).

ويرى بودون أن هذا الاتجاه يعطي الإنسان قدرة هائلة على قبول الأوهام أكبر مما يعطيه للقط على سبيل المثال؛ لأن القط ـ كما يقول دوركايم ـ يبتعد بعد فترة قصيرة عن اللعب بكرة الخيط عندما يدرك أنها ليست فأراً حياً، وهذا ما جعل بعض علماء الأجناس يضعون دون أدنى تردُّد في في يدي الفرد الاجتماعي مقدرة على إيهام الذات أكبر بكثير من التي لدى القط!

إن التوكيد والتكرار عاملان قويّان في تكوين الآراء وانتشارها ـ كما يرى ذلك جوستاف لوبون ـ وإليهما تستند التربية في كثير من المسائل.

وبهما يستعين أرباب السياسة والفكر والدين في خطبهم ولا يحتاج التوكيد إلى دليل عقلي يدعمه؛ وإنما يقتضي أن يكون وجيزاً حماسياً ذا وقع في النفس والتوكيد لا يلبث بعد أن يكرر تكراراً كافياً أن يحدث رأياً ثم معتقداً. والتكرار هو تتمة التوكيد الضرورية. ومن كرر لفظاً أو فكراً تكريراً متتابعاً فقد حول هذا اللفظ أو الفكر إلى معتقد، "فلا رأي أو لا عقيدة تظهر بلا نفوذ أو تسيطر بلا توكيد أو تعيش بلا مثال أو تكرار".

والتكرار من القوة بحيث يجعل الفرد يؤمن هو نفسه بالكلمات التي يكررها ويسلِّم بالأفكار التي يعرب عنها عادة. والتاريخ الديني والسياسي حافلان بالعقائد التي تجذرت في نفوس الأفراد بفعل التكرار على الوجه المذكور.

وينبغي هنا أن نتنبه لحقيقة ذات شأن ليس بالهين، فالقول أو الفكرة لا تكتسب قيمتها دائما من خلال ذاتها ـ كما هو شائع، بقدر ما تكتسبه من خلال قائلها من ذوي النفوذ والتأثير. وخاصة أن ذوي النفوذ في السياسة أو العلم أو الدين، يمتلكون سطوة هائلة وشديدة الخطر على العقول والنفوس بحيث تصبح أقوالهم خارج نطاق التفكير والشك وبمنأى عن المراجعة والنقد، ولذلك تمتصها العقول بدون مقاومة في حالة أقرب ما تكون للتداعي الحر.

ومن أفصح الأمثلة على هذا الزعم، أن تستمع أو تقرأ خطبة أو مقالة لأحد الرموز الدينية أو السياسية أو حتى العلمية من ذوي النفوذ والتأثير، ويحدث أن تكون خطبته هزيلة، وقد لا تختلف كثيرا من حيث قيمتها الفكرية عن المواعظ المدرسية المكرورة والمبتذلة، وبالرغم من ذلك تجد لها صدى طيباً في نفوس الأتباع والمريدين.

ولانتشار الأفكار طرق أخرى؛ أبرزها: الانتشار عبر العدوى النفسية حيث لا قيمة علمية على الإطلاق للدليل العقلي أو الرأي السديد فيها، وإنما تنشأ لحاجات نفسية أو غرائزية وخاصة في حالات الاحتشاد أوعند الأزمات الاقتصادية أو السياسية التي تحدث لجميع المجتمعات البشرية عبر مراحل تطورها.

وفي هذا السياق يقول سلامة موسى: العدوى النفسية هي أمر روحي ينشأ عنه التسليم ببعض الآراء والمعتقدات تسليما غير إرادي ومصدرها العقل الباطن.ولذلك لا يؤثر فيها البرهان أو التأمل وهي تشاهد في الحيوان كما تشاهد في البشر ولا سيما وقت الاحتشاد.

وقد تبلغ بقوتها مبلغاً يجعل الإنسان يضحي بأكثر منافعه الشخصية وضوحاً.

ولا تسري العدوى بتماس الأفراد تماساً مباشراً، بل قد تنتشر بالكتب والصحف والحوادث، وحتى بالاشاعات المتهافِتة.

والخوف أشدّ العواطف استجابة للعدوى وليس شأنه الكبير في حياة الأفراد والشعوب بالأمر المجهول.

وعلى سبيل المثال: في اصطبل الجياد، عندما تستحوذ على أحد الجياد حالة من الهلع تسري تباعا إلى الجياد الأخرى، وعندما ينبح أحد الكلاب تتبعه بقية المجموعة في نباح جماعي، وعندما يهرب الخروف من الراعي تتبعه سائر الخراف.

وأثر العدوى في الحيوان تكاد تشبه لحد كبير أثرها عند الإنسان، لكن الفارق الجوهري بينهما، أن الإنسان يمكنه التحرر من رِبْقَة القطيع، من خلال ارْتِكابه "خطيئة" الشك، أولى ثِمار آدمية الإنسان.