من الإمام الشيرازي إلى المغيِّرين (1)
مع كون التغيير من أكثر سنن الوجود ثباتًا حتى قيل أن "الشيء الوحيد الثابت هو التغيُّر"، إلا أنه –في نفس الوقت- ليس بالأمر الهيّن الدانية قطوفه لكل من اشتهاها فهو يحتاج إلى إعداد كبير وعمل متفانٍ وإصرار مستمر حتى في أبسط صوره كتغيير نمط الغذاء أو اللباس أو النوم وما أشبه، فما بالك بإحداث تغيير في المجتمعات والشعوب وتغيير الأنظمة السياسية الدكتاتورية الضاربة بجذورها في عمق الأمة؟! إنه بلا شك يتطلب جهدًا وإعدادًا ومهارات أعلى وأكبر وأكثر. وستكون حلقتنا الأخيرة في سلسلة قراءة المنظومة التغييرية عند المجدد الشيرازي الراحل (قدس سره) بجزئيها حول العادات والصفات والمهارات التي يحتاج دعاة التغيير وقادته وممارسوه لاكتسابها للنجاح في تحقيقه، ومن أهمها الآتي:
· لا للتفكير السلبي: "يجب أن لا نفكر بأننا غير مؤهلين للقيادة وأخذ زمام الأمور في العالم وبناء حضارة الأمة الإسلامية، بل علينا أن نطرد كلمة (مستحيل) من قاموس حياتنا وعندها سنستطيع إذا ما أخذنا المبادرة وتفهمنا الرؤية والبصيرة الصائبة أن نرجع إلى السيادة"(1).
· التأهيل الذاتي للحركة: "على القادة الذين يريدون الحركة الإسلامية العالمية أن يكونوا بمستوى هذه الحركة، وأن يغرسوا في أنفسهم، وفي أعمالهم، وفي أفكارهم، وفي سلوكهم المؤهلات التي يتقدمون بها إلى الأمام.. ليس الأمر بالدعايات والادعاءات ولا بالرياء ولا بالسمعة ولا بالتهريج، إنها حقيقة صعبة، حقيقة النهضة الشاملة في عالم مزدحم بمختلف الاتجاهات والأفكار والتيارات والأعمال، والمؤهلات النفسية من الشروط الأساسية لمثل هذه الحركة.. التقدم يكون بالإتقان والصحة في العمل والفضيلة والتواضع وبتوفير المؤهلات في النفس. فالواجب على أفراد الحركة أن يهتموا لملء أنفسهم بالمؤهلات التي تعطيهم زمام الحركة"(2).
· عدم الانشغال بالهامشيات: "أن لا يشتغلوا بالأمور الجانبية التافهة، والإصلاحات السطحية البسيطة، فإن الاشتغال بالجانبيات والتوافه يمنعهم عن الوصول إلى أهدافهم فإنه ليس للإنسان قدرتان -مهما كان ذلك الإنسان عظيماً- :قدرة الإصلاح الجانبي، وقدرة الإصلاح الكبير، ولذا نجد في سيرة رسول الله الاهتمام بالإصلاح الأساسي أكثر من الاهتمام بالإصلاح الجانبي، فقد كان في جيشه حتى المنافقين، فلم يشتغل بإصلاحهم عن الإصلاح العام.. ولعل هذا الأمر هو السرّ في فشل بعض الحركات الإسلامية التي ظلت تهتم بالصغائر مثل اهتمامها بالكبائر"(3).
·تجنب الطفولة السياسية: ومن جوانبها: "الانغلاق وعدم الانفتاح على الناس والجماعات الأخرى.. تصور الإنسان نفسه فوق الآخرين ذاتاً أو عملاً أو فكراً.. كثرة الشكوى بدون هدف صحيح.. تصور أن العمل يثمر فوراً.. القاطعية العمياء، بينما الرجل السياسي الرشيد يلزم أن يكون مرناً، وقد قال أحد السياسيين المحنكين: لو علمت أن خمسين في المائة من أعمالي السياسية صحيحة ومطابقة للواقع لابتهجت ابتهاجاً كبيراً.. زعم أن كل الناس على باطل أو سيئو النية، وأنه المحق الوحيد فقط وأنه هو الوحيد الذي يفهم وأنه هو الوحيد الذي له نية حسنة.. زعم أن كل شيء ممكن قد عمل به، فلم يبق مجال للعمل من جديد.. ترك الصغائر من المشكلات وعدم معالجتها حتى تكبر.. عدم الاطراد في توسعة الحركة.. عدم الاهتمام بتكون الأعداء، فإن من طبيعة الرجال الكبار أن يتكون لهم الأعداء بسرعة بسبب أمور تافهة ثم ينموا العدو فيقف سداً دون المآرب الكبيرة.. الوقوع في المهاترات حسب إرادة الخصم أو الجاهل أو الحسود.. نسبة ما يجري في البلاد من الانحرافات إلى صغار الموظفين دون رئيس الدولة أو بالعكس.. من طبيعة القيادة الفردية هي الطفولة دائماً وإلا لم تكن القيادة فردية.. ضرب الكفاءات لأن الكفاءة لا تكون إلا بمناقشة الفكر"(4).
·بعد النظر: "التسلح بالرؤية البعيدة حتى يتمكنوا من تمييز الصالح عن الطالح.. وما يوصل عما لا يوصل، وقد قال الإمام الصادق: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)، والإنسان إذا عرف ملابسات المستقبل لا تهوله الصدمة مما توجب انسحابه عن الساحة إذا وقعت الواقعة المؤلمة يوماً ما.. فإنه كثيراً ما نرى أن بعض التنظيمات الإسلامية بعد معاناتهم لمناهج التنظيم وما أشبه يعملون ما يسيئون إلى التنظيم وإلى أنفسهم بصرف وقتهم في الهامشيات والمحاربات الجانبية وما أشبه مما يفوتهم الهدف الذي عملوا لأجله ليل نهار، إن التهيؤ الصحيح والهمة العالية وبعد النظر هي الأشياء التي تأتي بالنتائج"(5).
·اختلاف الرأي والاستجابات: "على الذي يريد ممارسة التغيير أن يعرف أن ليس كل الناس معاندين، وإنما في كثير من الأحيان يختلف شخصان أو مجموعتان في الرأي والاتجاه، لا عناداً وتعصباً بل لأن استجابات الناس مختلفة.. فالممارسون إذا أرادوا التغيير يجب أن لا يحملوا أقوال وأفعال الناس الذين يخالفونهم في الرأي والمسلك على العناد والتعمد، ولذا كان رسول الله يقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)"(6).
·احترام واستيعاب الجماهير: "فإن كثيراً من التنظيمات يأخذها الغرور والعجب بنفسها، فتنظر إلى الناس نظرة احتقار، وترى نفسها هي العاملة والآخرون كلهم خاملون! وجزاء الناس لهذه التنظيمات احتقارها، وإهانتها.. مما ينتهي بشكل تدريجي إلى السقوط.. وفي سلوك الأنبياء والأئمة الشيء الكثير من احترام الناس واستماع آرائهم..
الجماهير لا تنظر إلى الهدف غالباً، بينما التنظيم وقياداته ينظران إلى الهدف بصورة مستمرة، ونظراً لاختلاف النظرتين ينشأ التناقض فيعيقهما جميعاً عن التقدم إلى الأمام، فما العمل الذي يحصن التنظيم عن رفض الجماهير له؟
الواقع، يجب أن يكون التنظيم على قدر كبير من التعقل والحزم، حتى يتمكن من إطفاء النار - لو صح التعبير- التي تشب بينه وبين شرائح معينة من الجماهير، وبذلك يستطيع الجمع بين الجماهيرية وبين الهدف، وهذا ليس بالأمر السهل، إلا أنه ممكن"(7).
·لا احتقار لأحد في الحركة: "فلكل فرد رأي يؤخذ به، وبهذا لا يكون هناك استغلال ينتهي إلى تفتت الحركة وتبددها، أما أن يقول الإنسان: إني أكثر فهماً فلي حق القرار، أو إني أعمق في الرؤية المستقبلية فلي حق أخذ القرار في الموضوع، فهذا هو الاستغلال بعينه.. فاللازم ألا يزدري إنسان إنساناً، وألا ينظر إنسان إلى آخر بعين الاحتقار.. فكما أنه لا يحق للأكبر أن يطرد الأوسط، كذلك لا يحق للأوسط أن يطرد الأصغر.. ولذا فمن الضروري على القائمين بالحركة أن ينظروا إلى أنفسهم بنظر المساواة والأخوَّة والعدالة مع الآخرين، حتى يتمكنوا من التقدم"(8).
·تجنب الوعود الفارغة: "عدم بذل الوعود - بلا ميزان – للناس.. فإن الإنسان قد يحاول بسبب الوعود الخلاَّبة أن يلفَّ الناس حوله، بينما ذلك يأتي بعكس النتيجة فإنه كثيراً ما لا يتمكن الإنسان من الوفاء بوعده فينفضُّ الناس من حوله"(9).
·الصمود وتحمل الصعوبات: "إن الطريق ليس مفروشاً بالورود والأزهار، وإنما بالأشواك.. يجب الصمود وتلقي الصدمات من الأعداء والأصدقاء برحابة صدر من أجل الله وحده.. إن الطريق صعب، فيه شماتة، فيه إهانة، فيه تهم، فيه السجون، فيه المعتقلات، فيه المشانق، فيه كل شيء، لكن إذا تحمل المسلمون مصاعب هذا الطريق وساروا فيه وصلوا"(10).
"إن تحمل الصعوبات تسجل للإنسان التاريخ المشرق وتدفع الأجيال إلى الأمام.. فيجب على ممارسي الحركة أن يكونوا أشداء في سبيل الهدف ويتحملون المشاق والصعوبات برحابة صدر حتى يصلوا إلى ما يهدفون"(11).