رحلت الخلود
براءة الطفولة رسمت على الخدين الرطيبين لرجاء .
وعقلها المنفتح على العالم , المدرك لكل ما يدور حوله .
ودعاء الوالدين , ومن يربطه صلة برجاء .
وحقيبة سفر صغيرة , لكنها جمعت مقتنياتها الثمينة ولحظاتها السعيدة .
وعند سلم الطائرة ودعت رجاء والديها .
ضمت رجاء تراب الوطن الغالي , وفي نسيمه شمت نفحات المحبة والولاء .
أقسمت رجاء للوطن أن تهديه عقلها وعلمها , وتسخر طاقاتها فداءً للوطن الغالي .
وتتدرج الطائرة في الارتفاع , ويصغر الوطن تدريجيًا .
كانت الرحلة طويلة وشاقة على رجاء .
قلب رجاء المشع بالمحبة , وعقلها المتشوق للعلم , خفف على رجاء معاناة الرحلة .
خيال رجاء الشفاف أخذها إلى المستقبل , ورسم لها خرائط الغد المشرق .
تعب عقل رجاء وهو يبحر بسفينة المستقبل .
وارتخت الجفون , بعد أن متع ناظر رجاء بشهادتها ودرجاتها المتفوقة .
وتطاردها الأحلام الوردية , وتداعب عقلها .
ويرتفع صوت رجاء نعم !!! نعم !!!
أنا المهندسة الدكتورة في علم ....
ويخترق أسماعها صوت المُضيفة عن وصول الرحلة .
بهدوء عادت رجاء إلى أرض الواقع .
وبسرعة البرق طوعت نفسها مع المجتمع الجديد .
وزملائها وكل من أشرف على تدريسها , شهِد لها عن تألق عقلها .
لمع تفكير رجاء وأشرقَ بريقهُ .
أرتقت رجاء إلى سلم العلم والمجد .
هيئت رجاء نفسها إلى يوم التخرج , والعودة إلى نسيم الوطن .
حلمت رجاء برحلة العودة , فساعات قليلة تفصلها عن تسلم الشهادة .
وساعات إضافية عن شم تراب الوطن .
بهدوء ساقت رجاء مركبتها تودع المدينة , ونظرها يوجهها نحو قاعة الاحتفال .
وأبت رجاء إلا أن يكون الاحتفال يضم كل أهل مدينتها , وبين زغاريد النساء .
وأناشيد الأطفال , وتُحمل على أكتاف الشباب , وتوقع شهادتها بدموع الشيوخ .
التي بللت ملابسهم , وغسلت طرقات مدينتهم .
أما والدُ رجاء ووالدتها , فالمشهد أمام ناظرهم , والأصوات صمت آذانهم .
وتوقفت جميع حواس الوالدين , إلا نظرهم ظل شاخصًا نحو الصندوق .
يترقبان فتح الصندوق , شُلت حركة جميع أهل المدينة , من المنظر المهيب .
تقدم شاب في عمر الزهور محني الهامة , لا تستطيع أقدامه أن تحمل جسمه النحيل .
نادى بصوته الحزين الممشوق بالدموع .
أخي ... أخي ... أخي .
لكن والدُ رجاء لا يستطيع الرد , ولو بكلمة واحدة .
رفع الشاب صوته بالبكاء والنحيب أخي .
اليوم نحتفل بتخرج رجاء .
اليوم نحتفل بزفاف رجاء .
هذه شهادة التخرج .
بسمة رجاء الراقدة في صندوقها الخشبي , قد زادة من سواد المدينة .