الباحثة عن الذات
لم تعرف غفران من براءة الطفولة غير الاسم .
ولم تكتسب من تجارب الحياة , إلا العزلة .
فأصحاب النفوس الرديئة مزقت شقيقتها , قبل أن ترى غفران نور الحياة بلحظات .
ثم يحرمها القدر من وسام الأم , ولم تتغنى به .
وغياب والدها عن المسرح .
وعدم تمكنه إلا من رؤية آيات ممزقة الشرف , ولملمة أشلاء جسدها المهشم .
تبلور في تفكير والد غفران عقدة الإحساس بالذنب , وعقدة الخوف من تكرار الحدث لغفران .
عاشت غفران حبيسة الدار منذوا نعومة أظافرها , لم تلهو بين زقاقات البيوت , ولم تسير أقدامها بين سوابيط حارتها .
بل لم تعرف من جنس البشر غير والدها .
وفي ليالي الشتاء الباردة بجانب المدفأة تتسامر غفران مع والدها , ويحتضن الوالد ابنته ويضمها إلى صدره .
وتتحرك الغيوم السوداء في الجو ويعلو صوت الرعد , ويبدأ المطر في الهطول .
ولكن من عيون غفران ووالدها . رغم حفظ غفران لأدق تفاصيل الحدث , إلا إن غفران تتألم بمجرد أن تنظر إلى وجه أبيها .
تقرأ بين تجاعيد وجهه معاناة السنين وألم الفراق , وتقرأ رغم عدم تمكنها من تعلم الحروف الأبجدية عجز والدها عن عدم تمكنه من معرفة الجاني .
وتسمع غفران أنين والدها المحبوس بين طيات قلبه المثقل بالحسرات , عن ضياع أسرة وتشتت شملها .
يشتد عود غفران صلابةً , وينمو جسدها , ويدرك عقلها حجم الفاجعة التي صبت على والدها .
وترقدُ غفران في أحضان أبيها , ويدرك والدها كم كبرت غفران .
لكن هل يدرك والدها بأن غفران كبر عقلها ونمى تفكيرها وتسارعت أسئلتها ؟؟؟
شقت غفران طريقها في البحث عن أسئلتها , وكل ما يصلها إلى حقيقة ماحدث .
عبثت في أوراق الماضي , بحثت في حروف مأساة العائلة .
نشرت صور عائلتها الصغيرة , ودققت النظر في كل شخصية .
وقع نظرها على وجه آيات .
توقف تفكيرها عند قسمات وجه أختها .
كم كنت آية في الجمال ؟
يقطع الوالد على ابنته عزلتها وتفكيرها في أختها .
يصرخ لا ... لا ... لا
لا تحرقي قلبي .
لا تمزقي كبدي .
من تجرأ على تمزيق هذه البراءة الملائكية ؟؟؟
يلطم والد غفران مثل الثكلى على رأسه , ويخمش وجهه .
وتجيب دموعه لا أعلم .
ذئب في صورة بشر بمخالبه القاسية مزق عفت آيات , وبأنيابه الحادة قطع جسدها الصغير .
وأمي يا أبي !!!
لم يتحمل قلبها الرقيق , أن ترى ابنتها مهشمة , وتلد قبل موعدها .
ولم تغفل عن موعدها مع القدر الذي لم يمهلها لترى قسمات مولودها الجديد .
صرخت غفران قسمًا ببراءة الطفولة , وبجنة تحت أقدامك يا أمي , لن يرقد جفن , ولن أمسح دمعة , ولن أخلع السواد حتى أكشف كل الغموض !!!
ضمت غفران والدها إلى صدرها , أجهشت بالبكاء .
نظر الوالد إلى ابنته , لم يحتمل قلبه كل هذه الأحزان والجراحات .
وبهدوء سحب الوالد نفسه من دار الدنيا .
عاشت غفران وحيدة في مسكنها , ولم تكن وحيدة في تفكيرها .
وبإرثها المأساوي , وتعليمها البسيط .
قطعت كل القيود , وأخذت تتصارع مع الدنيا وتبحث عن حقيقة هذا الإرث .
بحثت بين الأجداد , وطرقت أبواب الآباء , وناشدت الأمهات , وتسامرت مع الجدات .
قررت أن تدخل عرائن الأسود والذئاب .
وبمخالبها الهشة , وأنيابها الطرية .
حرثت في جلود الأسود وفرت فِراء الذئاب .
عجزت عيونها وفراستها البسيطة عن سحب الجاني من بين الذئاب البشرية .
قادها عقلها لطرق أبواب العلماء , لربما تغطى بزي النبلاء والعلماء .
تفتح عقل غفران أثناء سيرها .
عشقت العبادة , وتلذذت بمناجاة معبودها .
وانعطف تفكير غفران , وخلعت نظارتها السوداء .
وكسرت أغلال الماضي , ودموع أحزانها .
وتبلورا في صفاء عقلها وتفكيرها العشق الإلهي .
وتسير في خطها الثابتة , تبحث عن حقيقتها , وحقيقة وجودها .
ولم تغفل عن البحث عن الذات الإلهية .