كيف تشتاقكم الجنة؟

 

أن تشتاق إلى الجنة فهذا أمر عادي ومفهوم، أما أن تشتاق إليك الجنة فهذا يحتاج إلى توضيح.

يقسم علماء السلوك الجنة والنار إلى ثلاثة أقسام:

  1. جنة الأعمال ونار الأعمال.
  2. جنة العقائد والملَكات ونار العقائد والملَكات.
  3. جنة الذات ونار الذات.

وهذا التقسيم مبني على علاقة الإنسان بعمله، والتي تكون على ثلاثة أنحاء:


النحو الأول:

وهو ما يصطلح عليه علماء الأخلاق ب (الحال). ويقصدون به حصول حالة معينة طارئة عند الإنسان العامل لا تلبث أن تزول. فمثلا في أحد المواقف قد يبذل إنسان بعض المال متأثرا بالأجواء المحيطة، فلا يعد هذا الإنسان كريما لأن الكرم ليس صفة راسخة في ذاته، بل هي حالة عابرة تزول بزوال أسبابها الخارجية.

النحو الثاني:

ويسمى في اصطلاحهم (الملَكة): وهو يعبر عن حالة نفسية مستقرة راسخة. فالحليم مثلا غير المتحلم؛ الأول وصل إلى مرحلة متقدمة من العلاقة بينه وبين الحلم فأصبح جزءا منه، بينما المتحلم لا يزال في المراحل الأولى من العلاقة، وبالتالي فهي معرضة للانفصال بسرعة.

النحو الثالث:

ويسمونه (الاتحاد): أي أن يصبح العمل والعامل واحدا، فيصير الحليم حلما، والكريم كرما، والمؤمن إيمانا.
ولعل أفضل تقريب لهذا النحو هو ما عبر عنه المصطفىحين برز علي  إلى عمرو بن عبد ود العامري يوم الخندق، حين قال : برز الإيمان كله إلى الشرك كله.

علي  اتحد مع الإيمان اتحادا، وعمرو بن عبد ود اتحد مع الشرك اتحادا. وهنا تكون ذات علي جنة، وذات عمرو نارا.

ومن هنا نفهم كيف تشتاق الجنة إلى أولئك الذين وصلوا إلى مقامات سامية توحدوا فيها مع أعمالهم الصالحة بحيث صاروا يتقلبون في جنة عالية في دار الدنيا.

يقول السيد كمال الحيدري في كتابه التربية الروحية: فإذا اتحد العمل مع الإنسان كان الإنسان هو الجنة لا أنه يدخل الجنة﴿فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم.

ونستطيع في ضوء هذا أن نعرف معنى الحديث النبوي الشريف: إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة.

وكذلك الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّ الْجَنَّةَ لَتَشْتَاقُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَسَلْمَانَ".

إن الجنة درجات متفاوتة، يتلذذ بعض أهلها بالملذات الحسية، بينما ينشغل آخرون فيها بما هو ألذ، كما جاء في حديث المعراج القدسي للنبي محمد :
(يا أحمد، إن في الجنة قصرا من لؤلؤة فوق لؤلؤة، ودرة فوق درة، ليس فيها فصم ولا وصل، فيها الخواص أنظر إليهم كل يومٍ سبعين مرة، وأكلمهم.. كلما نظرت إليهم؛ أزيد في ملكهم سبعين ضعفاً.. وإذا تلذذ أهل الجنة بالطعام والشراب؛ تلذذوا بكلامي وذكري وحديثي).. قال: (يا رب!.. وما علامة أولئك؟.. قال تعالى: مسجونون: قد سجنوا ألسنتهم من فضول الكلام، وبطونهم من فضول الطعام).

لقد حدد هذا الحديث الطريق إلى نيل هذه المرتبة الرفيعة بالدخول في سجنين: سجن اللسان عن الكلام الذي لا طائل من ورائه، ولا فائدة ترجى منه، فضلا عن الكلام المحرم من كذب ونميمة وغيبة وبهتان وغيرها؛ وسجن البطن عن الطعام الزائد الذي يكون ضره أقرب من نفعه، فضلا عن الطعام الحرام أو الشبهة.

يعلق الشيخ حبيب الكاظمي على هذا الحديث قائلا: إن الحديث القدسي يشير إلى صورة مذهلة من المسانخة: فمن لا يتلذذ بفضول الكلام في الدنيا؛ يكون جزاؤه يوم القيامة هو التلذذ بكلام الرب المتعال.. ومن يتحرز من النظر المحرم، ومن فضول النظر في الدنيا؛ يكون في الآخرة ممن يتلذذ بنظر الله عز وجل إليه.

لقد كان من أحد أسباب التوفيق الإلهي للسيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان – كما يذكرون في سيرته – أنه كان طويل الصمت، بعيدا عن فضول الكلام، كثير الاشتغال بذكر الله تعالى. ولذلك لا نعجب حين كُتِب على قبره: المرتقي إلى جنة الذات.

من الممكن أن يكون طموحنا وتطلعنا إلى أدنى درجات الجنة، وهو فوز بلا شك ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فاز.

وقد نتطلع إلى مرتبة الشرف العليا حتى تشتاق لنا الجنة فنكون﴿َ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.

صباحكم أمل بلا حدود، وعمل صالح متحد مع ذواتكم.

وتذكروا دائما قول صاحب تفسير الميزان في تفسير سورة الفاتحة: وكل أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه من نصيب.

شاعر وأديب