عقلاء القوم.. ماذا يفعلون؟

 

 

في كل مجتمع من المجتمعات الحية هناك نخبة من أهل الخبرة والرأي يمكن أن يُشار إليهم بأنهم عقلاء القوم. هذا لا يعني أن الآخرين ليسوا عقلاء، وإنما هي صفة صارت ألصق بهؤلاء من غيرهم لما يفترض الآخرون أن لهذه الفئة من التأثير الاجتماعي الإيجابي ما ليس لغيرهم، إذ يستطيعون أن يوجهوا دفة المجتمع نحو الوجهة الصحيحة، تماما كما يفعل العقل.

ويمكننا أن نتصور بعض السمات المنغرسة في الذهنية الاجتماعية عن تلك الشريحة:

  1. الحكمة: حيث ينظر عامة الناس لعقلاء القوم بأنهم من ذوي الرأي السديد المستخلص من تجارب الحياة وخبراتها.
  2. الحرص الشديد على مصلحة المجتمع ورقيه وتقدمه.
  3. الحضور الاجتماعي المتميز من خلال الاهتمام بالشأن العام اهتماما كبيرا يشعر به الآخرون.
  4. حب البذل والعطاء.

لعل هذه الحاءات الأربع ( الحكمة + الحرص + الحضور + حب البذل ) تشكل أبرز السمات المشتركة المتصورة في عقلاء أي مجتمع.

وانطلاقا من هذه السمات، فإن من المتوقع أن يقوم هؤلاء بدور بارز في مختلف شؤون المجتمع وقضاياه، وبالخصوص عند المنعطفات الخطيرة التي يمر بها.

عندما نستعرض آيات القرآن الكريم يمكن أن نتوقف عند موقفين هامين يصلحان لاستجلاء الموقف المطلوب من عقلاء القوم في أي زمان ومكان من أي قضية أو حدث يحيط بهم.

الموقف الأول موقف يتعلق بانحراف السلوك على مستوى الفرد والموقف الاجتماعي منه، والثاني بانحراف السلوك على مستوى المجتمع والموقف الاجتماعي منه.

قارون هو نموذج لذوي القدرات والإمكانيات الكبيرة التي يسخرونها ضد مجتمعهم؛ فقد استخدم ما لديه من ثروات طائلة في التطاول على قومه بمختلف أنواع البغي والعدوان ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ.

فماذا كان موقف عقلاء القوم منه؟

وهل تمكن من شراء ضمائرهم وإسكات أصواتهم؟

إن الآيات (76-84) من سورة القصص تبين لنا الموقف المبدئي الذي اتخذه هؤلاء من قارون، حيث قاموا بالتصدي لسلوكه المتعجرف وكبريائه الزائف بسلسلة من النصائح المباشرة غير المواربة في صورتي النهي والأمر، والتي تهدف إلى صلاحه أولا، ومن ثم كف يد العدوان عن المجتمع، وإيقاف نزيف الفساد عنه.

قالوا له:

﴿لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77).

وعندما استمر في غيه وغطرسته، واستطاع اكتساب بعض المعجبين، وقف عقلاء القوم ضد الانحراف الفكري لهذه الفئة الاجتماعية التي جعلت من قارون نموذجا تطمح للسير على نهجه.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)

هكذا كان الموقف من قارون وممن تمنوا مكانه مبدئيا لا مجاملة فيه، ويسعى دائما إلى تحقيق الإصلاح على المستويين الفردي والاجتماعي.

الموقف الثاني يتجلى في قصة أصحاب السبت، حيث وقع انحراف اجتماعي في القرية الساحلية (حاضرة البحر)، والتي تجاوزت الأكثرية فيها الحدود التي رسمها الله تعالى حين منعهم من الصيد يوم السبت امتحانا واختبارا لهم، فقاموا باستخدام دهائهم ومكرهم وتذاكيهم ليخرجوا أنفسهم من الالتزامات الشرعية تمشيا مع الأهواء.

فكان للأقلية الباقية موقفان:

  1. موقف الصامت المحايد أو كما أسميناه في مقال سابق موقف المثقف التمريري الذي لا يقوم بوظيفته تجاه المنكر الذي يحدث أمامه.
  2. موقف قلة الأقلية المتصدي للمنكر والرافض والملتزم بأداء وظيفته الشرعية حتى في أتعس الظروف وأسوأ الاحتمالات.

﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) سورة الأعراف.

  • من هنا فإن المطلوب من عقلاء القوم في أي مجتمع رشيد أن يكونوا أصحاب مواقف مبدئية في كل الظروف.
  • مطلوب منهم أن يكونوا صوت ضمير المجتمع يعبرون عن آلامه وآماله بصدق.
  • مطلوب منهم أن لا ينسحبوا من الساحة، بل أن يستلموا زمام المبادرة فيها سعيا وراء الإصلاح المنشود.
  • مطلوب منهم أن يستمروا في مخاض التنوير العسير وإن تأخرت الولادة.
شاعر وأديب