القوانين وما بعدها


 

 

 

 

 

كان من نتائج الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865 م) - والتي راح ضحيتها أكثر من 600 ألف قتيل أمريكي وعدد غير معروف من الضحايا المدنيين- إدخال ثلاثة تعديلات رئيسية على الدستور الأمريكي:

التعديل الثالث عشر والذي ألغى الرق والعبودية، والتعديل الرابع عشر الذي مدد الحماية الفدرالية القانونية للمواطنين على قدم المساواة بغض النظر عن العرق، والتعديل الخامس عشر والذي ألغى القيود العنصرية على التصويت.

  • لكن هل سارت الأمور بعد ذلك على ما يرام؟
  • أي هل تم تطبيق هذه القوانين خصوصا التعديلين الرابع عشر والخامس عشر بعد صدورها، أم أن الأمر احتاج إلى سنوات طوال وكفاح مرير حتى يتحول إلى واقع ملموس؟

يقول التاريخ الأمريكي إن التعديل الرابع عشر تمت المصادقة عليه في العام 1868 م، ولكنه لم يطبق على أرض الواقع، وإن بشكل جزئي، إلا في العام 1954 م، أي بعد 86 عاما.

والسبب في هذا التأخر المشين هو النفوذ الراسخ لترسانة القوى المقاومة للتغيير، والتي برعت في ابتكار الأساليب الملتوية للالتفاف على القانون، وباسم القانون طبعا.

حيث تفتق ذهنها الشيطاني – كما ذكرنا في مقال سابق – عن فكرة عنصرية جهنمية مهدت لها الأرضية الفكرية والأخلاقية والفلسفية المناسبة ليتم تكييفها قانونيا، وهي الفكرة التي أطلق عليها مبدأ " منفصل لكن متساوٍ".

فالفصل بين الأبيض وغير الأبيض في المدارس والجامعات وحافلات النقل العام وبرك السباحة ودور السينما والمطاعم وغيرها لا يخل بمبدأ الحماية المتساوية للمواطنين ما دامت خدمات هذه المرافق متساوية.

هكذا يبرع الإنسان – وهو أكثر شيء جدلا – في إخراج ثعلبه من قمقمه ليتهرب من الاستحقاقات القانونية، فلكل مسألة شائكة مخرج لا يستعصي على شياطين مقاومة التغيير إيجاده.

فعندما أصدر الكونغرس في العام 1875 م قانونا يمنع " أي فرد " من حرمان المواطنين من أي عرق أو لون كانوا من المعاملة المتساوية في المرافق العامة، أعلنت المحكمة العليا أن هذا القانون مخالف للدستور، واستندت للتعديل الرابع عشر نفسه، وبررت ذلك بأن هذا التعديل يحرم التمييز العنصري من قبل "الولايات" وليس من قبل "الأفراد"، لذلك لا يستطيع الكونغرس أن يحظر أعمال التمييز العنصري التي يقوم بها الأفراد.

لاحظ كيف بحثت المحكمة العليا عن ثغرة قانونية لتلتف على القانون بالقانون، ولتوجد المسوغات القانونية لممارسة التمييز.

ولم يكن التعديل الخامس عشر - الذي ألغى القيود العنصرية على التصويت – أفضل حظا من صاحبه.

فقد تم الاحتيال عليه بسن عدة قوانين الهدف منها الحد من قدرة السود على التصويت.

ومن خلال "مجموعة من الأساليب التقنية غير المنصفة، والاحتيال والخداع الواضح، وفي نهاية الأمر التهديد بالعنف، تم تقويض اللغة الواضحة للتعديل الخامس عشر ومنع السود من التصويت في الجنوب كله".

يقول التاريخ الأمريكي:

"مالت انتخابات الرئاسة الأمريكيّة عام 1912 ضدّ مصالح السود، وكانت القيود القانونيّة المفروضة على تصويت السود في الانتخابات فعالة جدًا لدرجة أنهم لم يستطيعوا التصويت على الإطلاق.

في حين أن ضرائب التصويت ومتطلبات محو الأمية كان يعفى منها الأمريكيون البيض؛ فالقانون لم يكن يسري عليهم، بل كانت تلك القيود تطبق على السود فحسب" .

نطرح هذا التاريخ لنؤكد على عدة أمور:

  1. إن الواقع شديد التعقيد، ولا ينبغي النظر إليه بصورة اختزالية مبسطة.
  2. إن النضال من أجل التغيير يحتاج إلى وعي عميق بالواقع وملابساته، ومنظوماته المتشابكة، وإلى رؤية بعيدة المدى، وإلى خطوات واثقة تسير في اتجاه بوصلة التغيير، لا تنحرف عن مسارها أبدا.
  3. إن التغيير لا يأتي مجانا، بل يتم تقسيط ثمنه على أجيال متعددة، فكلما دفع جيل قسطا أكبر قلت نسبة الأقساط والحصص على باقي الأجيال، بل قلت عدد الأجيال أيضا.
  4. إن المقاومين للتغيير سيقاتلون حتى آخر نفس من أجل بقاء الأوضاع على ما هي عليه، ولن يدخروا وسعا في اختراع الوسائل لتدمير عجلة التأخير أو فرملتها. وهذا يتطلب من دعاة التغيير الصبر والمثابرة والمصابرة.
  5. القوانين وحدها لا تكفي، بل لا بد من ثقافة تغييرية تواكب التحول القانوني، وإلا فسيطول الانتظار ويتأخر موسم الحصاد.
شاعر وأديب