البلاغ المبين

 

البلاغ المبين مهمة شاقة وعسيرة ومكلفة أيضا، فقد يدفع الإنسان حياته ثمنا لأداء تلك المهمة. قد يمتلك البعض رسالة ما ولكنه غير مستعد لتحمل أعباء تبليغها، فتظل حبيسة صدره أو محيطه الضيق ثم يطويها النسيان.

نحن لا نتحدث عن أي رسالة، بل عن رسالة تنويرية تريد خلق واقع جديد.

وحتى نفهم مدى الصعوبات التي تعترض طريق البلاغ المبين، يمكننا أن نستشهد بموقفين من القرآن الكريم.

الموقف الأول: هو تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ حيث تناول القرآن هذا الموضوع في مقطع من سورة البقرة استغرق أكثر من 10 آيات ( من 142 إلى 152) مع التأكيد ثلاث مرات على ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، ثم بيان صعوبة هذا التغيير في القبلة بقوله تعالى ﴿ً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه، وما ذلك إلا لصعوبة ترك الناس ما اعتادوا عليه.

يقول صاحب تفسير الأمثل: " تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أثار لدى الجميع تساؤلات عديدة، أولئك الذين قالوا إن الأحكام ينبغي أن تبقى ثابتة راحوا يتساءلون عن سبب هذا التغيير، فلو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة، فلما ذا لم يؤمر المسلمون بالصلاة نحوها منذ البدء، وإن كانت بيت المقدس فلم هذا التغيير؟!

و أعداء الإسلام وجدوا الفرصة سانحة لبث سمومهم و لإعلامهم المضّاد.

قالوا إن تغيير القبلة تمّ بدافع عنصري، و زعموا أن النّبي اتجه أوّلا إلى قبلة الأنبياء السابقين، ثم عاد إلى قبلة قومه بعد تحقيق انتصاراته!

وقالوا: إن محمّدا أراد استعطاف أهل الكتاب بانتخابه بيت المقدس قبلة له، و لمّا يئس منهم استبدل الكعبة بها.

واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه، ولم يتخلص بعد تماما من رواسب الشرك و العصبية.

لذلك تصرّح الآية أعلاه أن تغيير القبلة اختبار كبير لتمييز المؤمنين من المشركين."

الموقف الثاني: هو تبليغ آية البلاغ، وهي قوله تعالى:﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) سورة المائدة.

والتي علق عليها صاحب الأمثل قائلا: " أسلوب هذه الآية، ولحنها الخاص، وتكرر توكيداتها، وكذلك ابتداؤها بمخاطبة الرّسول ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرّتين، وتهديده بأنّ عدم تبليغ هذه الرسالة الخاصّة إنّما هو تقصير- وهذا لم يرد إلّا في هذه الآية وحدها- كل ذلك يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جدا بحيث أن عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها.

لقد كان لهذا الأمر معارضون أشداء إلى درجة أنّ الرّسول  كان قلقا لخشيته من أنّ تلك المعارضة قد تثير بعض المشاكل بوجه الإسلام و المسلمين، ولهذا يطمئنه اللّه تعالى من هذه الناحية."

إن التغيير لا يمكن أن يحدثه المسايرون للواقع والمداهنون والمتزلفون، بل يصنعه أولئك المؤمنون حقا برسالتهم التغييرية، المستعدون دائما للتضحية في سبيلها، المدركون لواقعهم، الساعون لصنع غد أفضل.

يقول فولتير: "في فرنسا يجب أن تكون السندان أو المطرقة. أنا اخترت أن أكون سندانًا" ويقول "كل من ليس حيويًا ومستعدًا للمواجهة فهو لا يستحق الحياة وأعتبره في عداد الموتى".

فولتير هذا كان رائدا من رواد عصر التنوير لأنه أصر على تبليغ رسالته التي يؤمن بها، وتحمل في سبيلها السجن والنفي، وتعرضت كتبه للحذف والمنع والمصادرة والإحراق.

من السهل علينا اليوم أن نشيد بفولتير أو ابن رشد أو غيرهما من المفكرين الكبار، ولكن هل كنا سنفعل ذلك لو عاصرناهما، أم كنا سنحتفل مع المحتفلين بحرق كتبهما؟!

سؤال تحدد الإجابة عليه موقفنا من التنوير والتنويريين في عصرنا الراهن، وكذلك مدى مشاركتنا في نشر أو حجب البلاغ المبين.

شاعر وأديب