غاندي ومسيرة الملح


الإنسان إرادة، والإرادة لا تقاس بحجم الأجسام، بل بقوة العزيمة والهمة التي يحملها.

كان غاندي شخصا هزيل البنية نحيل الجسم، ولكنه كان يمتلك إرادة فولاذية تستطيع هزيمة أعتى الإمبراطوريات.

بعد أسابيع من اعتزاله للتأمل، خرج غاندي بفكرة سيكون ما بعدها غير ما قبلها. وكما اختار في محطة سابقة القطن ليكون رمزا لمقاطعة ومقاومة المستعمر، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي عنه؛ اختار هذه المرة الملح رمزا لتحدي الاحتكار البريطاني لهذه السلعة الأساسية التي لا يستغني عنها أحد.

كانت بريطانيا قد أصدرت قانونا يخولها احتكار صناعة وبيع الملح في الهند، وتضمن القانون عقوبة بالسجن ستة أشهر على كل من يصنع ملحا، حتى في حال ضبطه يجمع حجارة ملح من شاطئ البحر، كما قامت بفرض ضريبة على الملح. وفي عام 1923 م قامت بمضاعفة الضريبة مما أثقل كاهل الشعب الهندي بشكل كبير.

من هنا رأى غاندي أن الملح هو الرمز الأقوى الذي سيشعر به الجميع، والذي يستطيع جمع الناس حوله. فقرر أن يبدأ مسيرة سلمية تمتد 240 ميلا من أحمد أباد وسط الهند إلى داندي على الساحل الغربي حيث مصانع الملح. بدأت المسيرة يوم 12 مارس 1930 واستمرت 24 يوما حيث وصلت إلى داندي يوم 6 أبريل. كانت البداية متواضعة جدا، حيث تكونت من 80 شخصا، ثم التحق بها الآلاف من المدن والقرى التي كانت تمر بها.

عندما سأله الصحفي الأمريكي ويليام شايرار: لماذا يتبعك عشرات الآلاف أينما تذهب؟ أجابه غاندي: لأني نصف عريان مثلهم لكني أقدر على مقابلة أهم رجل ابيض في الهند، ونقل مشاكلهم إليه.

لم يكن غاندي يكذب على شعبه، ويوزع عليهم وعودا فارغة، بل أوضح منذ البداية أن الطريق يحتاج إلى تضحيات، ولكن نهايته ستكون في صالح الهند.

قال في الخطاب الأول للمسيرة: نقسم بأننا إما سننال استقلال الهند، أو ندخل السجون. ونقسم أن استقلال الهند سيتحقق بدون عنف.

وحين وصل الشاطئ حمل حفنة من الملح في يده معلنا من هناك نهاية الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. قال للآلاف من حوله: احملوا الملح بين أيديكم وفكروا بأنه يساوي 60 مليون روبية. هذا ما كانت تأخذه الحكومة منا عبر احتكار الملح.

بهذا الفعل تم خرق القانون الجائر، مما أحدث صعقة في كافة أنحاء البلاد، فهرع الآلاف من كل مكان للسواحل ليمارسوا الخرق ذاته، مما أسقط هيبة القانون والدولة، وكسر حاجز الخوف.

كعادة المستبدين على مر التاريخ، لم تلتقط بريطانيا هذه اللحظة جيدا، ولم تُعِرها آذانا صاغية، بل قامت باعتقال الآلاف من الهنود ومن بينهم غاندي الذين كانوا قد وطنوا أنفسهم واستعدوا لدفع الثمن، كما قامت بقتل المئات أيضا. وهاجمت الصحف المؤيدة لحزب المحافظين غاندي واتهمته بالعمل وفق أجندة خارجية مع الشيوعيين الروس لنشر الشيوعية في الهند، واستهزأت به وبحركته مشككة في جدواها، حيث لا يمكن- كما يقول المشككون - الإطاحة بالحكومة عبر غلي ماء البحر في إبريق.

غير أن كل ذلك لم يُثنِ غاندي عن مواصلة مسيرته النضالية حتى رضخت بريطانيا العظمى ودعته إلى مفاوضات في لندن. هناك سأله موظف الجمارك عن الأشياء التي معه، فكتب: «ست عجلات نسيج، وثلاثة صحون للأكل منذ أيام السجن، وثلاث علب فيها لبن ماعز، وستة سراويل طويلة، وسمعتي التي لا تساوي كثيرا». ثم رفض النزول في قصر ضيافة وفرته له الحكومة البريطانية، ونزل مع الفقراء في حي كنغزلي هول في شرق لندن.

بالطبع لم تكن مسيرة الملح سوى بداية لمرحلة جديدة من العصيان المدني والمقاومة اللاعنفية، حيث استمر فرض ضريبة الملح حتى أكتوبر 1946 م. وفي هذا درس بليغ للساعين للتغيير إذ عليهم أن يدركوا أن النجاح التام يتحقق عبر سلسلة من النجاحات التراكمية والإخفاقات أيضا؛ فمقاومو التغيير لن يسمحوا له بالمرور بسهولة.

وهذا ما كان يدركه جيدا غاندي فقد أعلن أن أحد أهداف العصيان المدني الرئيسية هو إقناع الشعب البريطاني بالعصيان المدني بعد أن يتضح لهم الظلم الذي يلحق بالشعب الهندي.

لقد نجح غاندي في أن يكشف للعالم أنياب الحكومة البريطانية بكل شراستها وقبحها.

مسيرة الملح أعقبتها 17 سنة هي فترة الحمل الفاصلة بين مسيرة الملح وولادة استقلال الهند عام 1947 م.

شاعر وأديب