روزا التي قالت لا

 

" كنت محظوظة لأن الله منحني القوة التي احتجت إليها في الوقت الدقيق الحرج عندما أصبحت الظروف ناضجة للتغيير.أشكر الرب في كل يوم لأنه أعطاني القوة لعدم التحرك من مقعدي".

هذا ما قالته روزا باركس، أم حركة الحقوق المدنية في أمريكا، عما قامت به في الأول من ديسمبر 1955 م. فمن هي روزا باركس، وما الذي فعلته؟

روزا باركس هي امرأة عادية، تنتمي بحسب التصنيف العرقي إلى السود. ولدت عام 1913 م في مدينة تاسكاغي بولاية ألاباما. كان للكنيسة الأسقفية الإصلاحية الأفريقية دور كبير في غرس الشعور لديها بالاعتزاز العرقي والثقة بالذات أثناء دراستها فيها فترة طفولتها. حصلت على شهادة الدراسة الثانوية فيما بعد ولم تستطع أن تكمل دراستها بسبب ظروفها العائلية.

في وقتها شهدت أسوأ تطبيق لنظام التمييز العنصري الذي كان مدعما بقوة قوانين " جيم كرو " السيئة السمعة، والتي كانت تشرعن الفصل بين البيض وغيرهم في المدارس والمطاعم والمقاهي والحافلات ودور السينما وغيرها من المرافق العامة بحجة أن المطلوب فيها هو التساوي في الخدمات وليس الدمج؛ فما دام التساوي متحققا فلا تمييز.

كان مألوفا وقتها أن تجد لوحة معلقة على باب أحد المحال التجارية أو المطاعم مكتوبا عليها ( ممنوع دخول القطط والكلاب والرجل الأسود)، وكان على الأمريكي الأسود أو الأمريكية السوداء التنحي عن المقعد للأبيض، حتى لو كان الأسود عجوزا أو معاقا والأبيض شابا فتيا مفتول العضلات.

وبرغم نجاح المحامي الأسود الكبير (ثيرغود مارشال ) في إقناع المحكمة العليا في العام 1954 م بإصدار قرار يبطل مبدأ " منفصل لكن متساو"، إلا أن القرار اقتصر على المدارس فقط، ولم يتم تعميمه إلى باقي المرافق.

في الأول من ديسمبر 1955 م، غادرت الخياطة روزا باركس عملها لتركب إحدى الحافلات العمومية في مونتغمري متوجهة إلى منزلها. كانت في غاية الإنهاك الجسدي فألقت بنفسها على أحد المقاعد الأمامية المخصصة للبيض. وعندما طلب منها سائق الحافلة فيما بعد التخلي عن مقعدها والانتقال إلى المقاعد الخلفية كي يجلس مكانها رجل أبيض استجمعت قواها وتذكرت آباءها وأجدادها، والتجأت إلى الله فأعطاها القوة التي يمنحها للمستضعفين، كما وصفت بنفسها تلك اللحظة الحاسمة.

تمكنت بتلك القوة أن تقول: لا.

وكان لهذه ال (لا) أصداؤها الواسعة وآثارها العميقة التي غيرت وجه التاريخ الأمريكي. هكذا التقطت روزا بعفويتها وتلقائيتها اللحظة المناسبة وقامت بالفعل المناسب لتصنع بموقفها مقاومة لا عنفية تعيد للسود كرامتهم وحقوقهم المسلوبة.

إنها لحظة اكتشاف الذات وطاقاتها المخبوءة المغفول عنها. إنها لحظة اليقظة التي لا يُراد لها أن تأتي، بل يقوم النظام المسيطِر بتكريس الغفلة عنها حتى يستمر في سيطرته وتحكمه وضمان التدفق الانسيابي لمصالحه غير المشروعة.

تلقت روزا باركس الشتائم والسباب وأقذع الألفاظ من البيض الذين كانوا في الحافلة، والذين لم يتحملوا جرأتها أو (وقاحتها) كما يتصورون في عدم التخلي عن مقعدها لأبيض، ولكنها لم تغير موقفها. ثم تم تغريمها 14 دولارا وإيداعها السجن لمخالفتها قوانين الفصل العنصري.

لم تشبه (لا) روزا اللاءات العربية الثلاث المشهورة التي أطلقت في قمة جامعة الدول العربية في الخرطوم عام 1967 م على خلفية نكسة حزيران. في تلك القمة أطلق الزعماء العرب لاءاتهم: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع العدو الصهيوني، لكنهم ومع مرور السنين لحسوها فكان الصلح والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل.

لقد كانت (لا) حقيقية وصادقة، وبالتالي فقد فجرت حركة احتجاج واسعة بين السود تنادي بمقاطعة الحافلات العمومية التي تعمل بنظام الفصل العنصري. استمرت المقاطعة 381 يوما نجحت في النهاية في استصدار قرار من المحكمة العليا بعدم دستورية الفصل العنصري في الحافلات العمومية.

وكان هذا النجاح مقدمة لنجاحات متتالية في مرافق أخرى، كما مهد لظهور وسطوع نجم مارتن لوثر كنج.
صحيح أن باركس حصلت على ميدالية الحرية عام 1996 م، ولكنها قبل ذلك فعلت ما لم يفعله الرجال، حين تحملت السجن والإهانات وخسرت وظيفتها، ودفعت الثمن غاليا لقولها (لا).

هكذا يمكن للإنسان أن يحدث التغيير إذا أراد ذلك مهما كانت الظروف حوله، وبغض النظر عن موقعه. المهم أن يدرك قوته وضعف الآخر.

" يخيل عند النظرة الأولى أن المايسترو الذي يوجه العازفين ) الأوركسترا (والقائد، يشير إليهم بعصاه، لكن ماذا لو تخلوا عنه وأضربوا عن العزف؟! أو غيروا في طريقة العزف؟! حينها يتضح لنا من الذي يمتلك القوة!!"

شاعر وأديب