رسالة من سجن برمنغهام


 

 

 

لعل أسوأ ما يمكن أن يتلقاه الساعون من أجل الحرية والتغيير لا يأتي من قبل السلطة الحاكمة، ولكن من أولئك الذين يُفترض فيهم ويُتوقع منهم مساندة هؤلاء المناضلين، إذ في ذلك تخييب للظنون وخذلان للموقف وإعانة على تعطيل مسيرة التغيير.

ولذا فإن الإمام علي بن الحسين في دعائه في الاعتذار من تبعات العباد والتقصير في حقوقهم يبدأ بالفقرة التالية: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَـذِرُ إلَيْـكَ مِنْ مَـظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْهُ.

عندما كان مارتن لوثر كينج في زنزانته الانفرادية نشر ثمانية من قساوسة برمنغهام البيض بيانا صحفيا في صحيفة برمنغهام نيوز انتقدوا فيه التظاهرات التي يقودها كينج والمطالبة بإلغاء التمييز العنصري، ووصفوها بأنها " غير حكيمة وغير مناسبة في التوقيت"، كما عارضوا العصيان المدني مهما كان سلميا، واعتبروا كينج شخصا خارجيا أي من خارج برمنغهام لأنه من أتلانتا.

رد كينج على البيان برسالة طويلة هربها مساعده إلى خارج السجن بين فيها موقفه ودافع عن نفسه بجلاء ووضوح ورد على الاتهامات الموجهة إليه وإلى حركته.

فعن اتهامه بأنه شخص خارجي قال: إننا عندما نواجه الاضطهاد لا يبقى هناك أناس خارجيون، الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان" مذكرا بالأنبياء الذين تركوا قراهم لإيصال رسالة الله إلى خارجها، ومركزا على المصير المشترك لأبناء الوطن الواحد بقوله: " إننا عالقون في شبكة لا مفر منها من العلاقات المتبادلة، مربوطون برداء واحد من المصير، فأي شيء يؤثر على فرد مباشرة، يؤثر على الجميع بصورة غير مباشرة"، كما جادل فيما نسبوه إليه من إثارة التوتر بأن هناك نوعا من التوتر البناء، غير العنيف والضروري للنمو.

ورد على مسألة عدم مناسبة التوقيت بأنه لا يستطيع أي رجل أن يضع جدولا زمنيا لحصول رجل آخر على الحرية، وقال: " بالنسبة لأولئك الذين لا يعانون بأنفسهم من علة التمييز العنصري، لا يبدو أبدا أي عمل مباشر على أن توقيته جيد". هذا الأمر منطقي جدا، إذ لا أحد يشعر بحقيقة التمييز كالذي اكتوى بناره واصطلى بجحيمه، أما من لم يصبهم شيء منه، أو كانوا يستفيدون من استمراره فإنهم لن يفكروا في رفعه وإزالته، وإن فكر بعضهم فلن يكون هذا الموضوع في أعلى سلم أولوياته.

لقد تحدث بحرقة عن هذه الحقيقة المرة قائلا: " إني أظن أنه من السهل على أولئك الذين لم يشعروا قط بحقائق العزل والفصل اللاذعة والمخزية أن يقولوا للمظلومين والمسحوقين: انـتــظـــــروا.

ولكن عندما تنظرون رعاعاً متوحشين أفظاظاً يعدمون أمهاتكم وآباءكم بدون محاكمة قانونية، ولكن بحسب مجرد رغبتهم في فعل هذا، ويغرقون أخواتكم وإخوانكم بسبب نزوة أو هوى، وعندما ترون رجال الشرطة الحانقين المملوئين كراهيهة يلعنون ويرفسون ويعاملون بوحشية، أو يقتلون أخواتكم وإخوانكم السود دون أن يتمكنوا من تخليص أنفسهم منهم، وعندما تجدون فجأة لسانكم وقد انعقد وتلعثم النطق على شفاهكم وأنتم تبحثون عن وسيلة لتشرحوا لابنتكم ذات الست سنوات لماذا لا تقدر أن تذهب إلى المنتزه الشعبي العام المعلن عنه في التليفزيون، وعندما ترون الدموع تسح مدراراً من عينيها عندما تخبر أن مدينة الملاهي موصدة أمام الأطفال الملونين، وعندما تجدون أنفسكم دوماً تحاربون ضد معنى منحط ومنحل لتجاهل حقوق الغير، عندئذ فقط سوف تدركون وتعون لماذا نجد أنه من الصعب أن نـنـتـظــر. إنه يأتي وقت يمتلىء فيه كأس الاحتمال ويفيض، ولا يعود الناس يحتملون أو يرغبون أكثر من هذا أن يغوصوا في لجة وهاوية عدم العدالة، حيث يتجرعون كأس اليأس كاملة."

لقد حاول كينج جاهدا أن يضع الأمر في إطار أوسع من خلال التركيز على جعل قضية التمييز قضية أخلاقية إنسانية وقضية وطنية أيضا من أجل مخاطبة الضمير الوجداني عند الآخرين وإشعارهم أن الجميع سيكسب في نهاية المطاف إذا انتفى التمييز بكافة أشكاله.

وفي سياق رده الذكي على اتهامه بانتهاك أمر المحكمة بمنع المسيرات والاعتصامات استشهد كينج – وهو يخاطب القساوسة- بالتمييز الذي دأب عليه القديس أوغسطين (354-430 م) بالتمييز بين القوانين العادلة والقوانين الظالمة، وأكد أن المرء الذي ينتهك قانونا ظالما بغية إثارة وعي مجتمعه الأهلي يعبر في الحقيقة عن أعظم احترام للقانون، بشرط أن يعمل بشكل علني مُحِب وباستعداد صادق لتقبل العقوبة.

نلاحظ هنا كيف استدعى كينج شخصية تحظى باحترام واسع لدى الطوائف المسيحية كافة ليدعم موقفه، لأن الكثير لا يقتنع بالفكرة من حيث هي فكرة مجردة، ولكنه يمكن أن يؤمن بها إذا نُسبت إلى شخص ذي هالة أو مكانة عنده، إذ يشعر بأن الانتقاص من الفكرة أو توهينها هو انتقاص لذات الشخصية نفسها.

كما نلاحظ أيضا في مقطع آخر من الرسالة أنه كان يصر على وضع قضيته في إطارها الوطني العام، يقول: " لا أخشى أبدا نتيجة كفاحنا، سوف نحقق هدف الحرية... لأن هدف أمريكا هو الحرية، ومصيرنا مرتبط بمصير أمريكا".

الرسالة طويلة وتعتبر اليوم من روائع الأدب الكلاسيكي العالمي، وتظهر فيها قدرة وبراعة كينج على الدفاع عن قضيته بأسلوب غاية في الروعة والمتانة والتأثير، يستخدم الكثير من الأدوات البلاغية المدعمة بالأدلة والبراهين لإثبات عدالة القضية التي نذر نفسه لأجلها.

قرأت بأنه في العام 1983، قام عالم النفس السريري الفلسطيني الذي تلقى دراسته في الولايات المتحدة، مبارك عوض، بترجمة الرسالة في القدس كي يستخدمها الفلسطينيون في ورش عملهم لتعليم الطلبة النضال بطرق سلمية لا عنفية، غير أني لم أعثر على النص، وهي بالفعل جديرة بالترجمة.

شاعر وأديب