مائة عام لتسديد الشيك

 

 

 

بعد النجاح الذي تحقق في برمنغهام من خلال المقاومة اللاعنفية في كسب تأييد قطاع عريض من الرأي العام لصالح إلغاء التمييز العنصري، أبلغ الرئيس الأمريكي جون إف كينيدي أبناء الشعب في 11 يونيو 1963 م أنه سوف يقدم إلى الكونغرس مشاريع قوانين تحرم التمييز العنصري في كافة المرافق التابعة للقطاع الخاص. لكن ترسانة المقاومين للتغيير وقفت عائقا أمام التصديق على قوانين بهذا الشأن.

بعدها عقد عدد من القادة السود عزمهم على مواصلة المسيرة وتغيير الواقع السياسي، وكان من بين القادة فيليب راندولف مؤسس نقابة " الإخوان الحمالين العاملين في قاطرات النوم" ومساعده بايارد راستين. فكر هذان في القيام بمسيرة ضخمة إلى واشنطن العاصمة لإحداث التغيير المطلوب.

كان راندولف الذي تجاوز السبعين عاما قد استلهم تجربته النضالية الشخصية التي كان لها الدور الكبير في الضغط على الرئيس هاري ترومان لإصدار أمر تنفيذي عام 1948 ألغى بموجبه التمييز العنصري في القوات المسلحة.

تشكلت مجموعة عرفت بالستة الكبار من قادة الحقوق المدنية لتنظيم المسيرة, وكان مارتن لوثر كينج واحدا من الستة.

" المسيرة من أجل فرص العمل والحرية" هذا هو عنوان المسيرة التي انطلقت يوم 28 أغسطس 1963، وشارك فيها أكثر من 250 ألف شخص، من بينهم ما لا يقل عن 50 ألف أمريكي أبيض مؤيدين لحقوق السود بالإضافة إلى قادة دينيين مسيحيين ويهود، ورؤساء نقابات وممثلين مسرحيين، وغيرهم.

ثم حان وقت الخطاب / الحلم حين صعد كينج المنصة ليلقي خطابه الشهير " لدي حلم" عند نصب أبراهام لنكولن كرمز للحرية في الذاكرة الجمعية عند الأمريكيين.

لقد أعد كينج خطابه بشكل متقن استخدم فيه نصوصا أمريكية رمزية كالدستور وإعلان الاستقلال وخطاب لنكولن في غيتسيبرغ ليضع الأمريكيين أمام حقيقة مذهلة، وهي أن هناك دينا مستحقا عليهم منذ مائة عام ولم يسددوه بعد.

قال كينج إن قرار إعلان تحرير الأرقاء الذي أصدره لنكولن يبدو في نظر الأرقاء المحررين وكأنه "فجر مشرق جاء لينهي سنوات الليل الطويل تحت الأسر والعبودية،." لكن بعد انقضاء 100 سنة، "يجد الزنجي نفسه ... منفياً في أرضه. وأضاف: إنه عندما كتب مؤسسو الدولة إعلان الاستقلال والدستور، "كانوا يوقعون سند دين يتوجب على كل أميركي أن يرث مسؤوليته.

وشكّل هذا السند وعداً بضمان "الحقوق التي لا يُمكن التصرّف بها في الحياة، والحرية، والسعي في سبيل السعادة لكافة الرجال، نعم، الرجال السود كما الرجال البيض"

وكان مما قاله أيضا في ذلك الخطاب التاريخي:

"تخلّفت أميركا عن تسديد السند وعلى الأقل بالنسبة لمواطنيها الملونين."

"نرفض الاعتقاد بأن بنك العدل قد أفلس. نرفض الاعتقاد بعدم وجود أموال كافية في الخزائن الضخمة للفرص في هذه البلاد.

ولذلك أتينا لصرف هذا الصك، الصك الذي يعطينا لدى الطلب ثروات الحرية وأمن العدالة."

ولعل العبارة الأشهر في الخطاب كانت: "إنني أحلم اليوم بأن أطفالي الأربعة سيعيشون يوما ما في دولة لن تعاملهم على أساس لون بشرتهم، ولكن بما تنطوي عليه نفوسهم وأخلاقهم".

بعد سنة من هذه المسيرة وبالتحديد في 2 يوليو 1964 وقع الرئيس ليندون جونسون على مشروع قانون الحقوق المدنية الذي صادق عليه مجلس النواب بعد مناقشات ماراثونية طويلة امتدت أكثر من 70 يوما قدم خلالها 275 نائبا تقريبا حوالي ستة آلاف صفحة من الشهادات، كما حاول بعض أعضاء مجلس الشيوخ عرقلة التصويت على القانون من خلال تكتيك استعمال الخطب الطويلة التي لا يمكن تجنبها، فقد حمل أحد الأعضاء مثلا خطابا مكونا من 1500 صفحة لإلقائه في المجلس، كل ذلك لتعطيل التصويت.

عند توقيعه على مشروع القانون اعترف ليندون جونسون بالشيك الذي لم يسدد، وبالحقوق التي أقرها الدستور وتم التحايل عليها مائة عام.

قال الرئيس الأمريكي:

"إننا نؤمن بأن جميع الناس خلقوا متساوين. ولكن العديدين محرومون من المعاملة المتساوية.

إننا نؤمن بأن جميع الناس يملكون حقوقاً لا يمكن التصرف بها. ولكن لا يتمتع أميركيون عديدون بهذه الحقوق.

إننا نؤمن بأن جميع الناس يستحقون نعم الحرية. ولكن لا زال الملايين منهم محرومين من هذه البركات، ليس بسبب تقصيرهم، بل بسبب لون بشرتهم."

تلك كانت لحظة المواجهة مع الذات التي أحدثت التغيير الكبير، فهل تحين هذه اللحظة في البلاد الإسلامية التي تعاني من حالة انفصام بين مثلها الدينية وواقعها البائس؟

هل يحق لنا أن نحلم بإنهاء التمييز الطائفي والقبلي والمناطقي وكافة أشكاله البغيضة؟!

شاعر وأديب