في سبيل الحرية

 

 

 


كل نفس تتعرض للتمييز هي نفس موؤودة لم يُسمح لها بالنمو الطبيعي، وبالتالي فإن كثيرا من قدراتها وقابلياتها توأد في مهدها مما يشكل خسارة كبيرة للمجتمع والوطن والبشرية.

ومن ثم يمكن أن يُعَد التمييز جريمة كبرى بحق الإنسانية حيث إن قتل الطاقات الخلاقة لا يقل خطرا عن قتل النفس المحترمة، فالأول قتل للروح والثاني تصفية للجسد.

الموؤودة في الجاهلية كانت تُقتل لمجرد كونها أنثى خوفا من الفقر أو العار أو هما معا.

﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) سورة النحل.

أما الذين يتعرضون للوأد اليوم فأكثر من ذلك بكثير، فلم يعد التمييز مقتصرا على الجنس فقط، بل تعدى ذلك إلى العرق واللون واللغة والدين والمذهب والمنطقة والطائفة وما إلى ذلك من التشظيات التي برع الإنسان في ابتكارها لتبرير وتمرير سلوكياته المشينة ضد الغير، وحتى يسلم من تأنيب الضمير حين يمارس انتهاكا صارخا لحقوق الآخرين.

من يتعرض للوأد يكون أمام خيارين: إما الاستسلام والمشاركة في وأد الذات، أو المقاومة ورفض الواقع الظالم والعمل على تغييره.

كان الخيار الثاني هو خيار الأمريكي الأسود فريدريك دوغلاس (1818-1895) الذي كان عبدا في مزرعة سيده الإقطاعي الأمريكي الأبيض. قامت زوجة هذا الإقطاعي بارتكاب عمل محظور على العبيد، وهو تعليم فريدريك مبادئ القراءة والكتابة، مما أغضب زوجها فمنعها من ذلك. لم يستسلم فريدريك فقد بدأ بمقايضة جيرانه الصغار غذاءه مقابل تعليمه.

وفي سن الثالثة عشرة تقريبا اشترى نسخة من كتاب مشهور حينها (الخطيب الكولومبي)، والذي كان يتضمن نصوصا عن الحرية، مما أعطاه فهما أفضل لدور الكتابة والخطابة في إحداث التغيير.

أصبح فريدريك عبدا مثقفا يجادل سيده أحيانا ويناقشه ويرد عليه، الأمر الذي رآه السيد سوء أدب وتطاولا غير مقبول أبدا، ففكر وقدر في كسر روح العبد، وهداه تفكيره الضال إلى إرسال العبد إلى مزرعة إقطاعي آخر اشتهر بالقسوة والفظاظة والقدرة الفائقة على تحطيم الآخرين. وهناك كان فريدريك على موعد مع التعذيب وسيل الشتائم والإهانات.

في أحد الأيام خرج عليه سيده الجديد بحبل يشبهه في الغلظة ليربط رجلي فريدريك وليبدأ حفلة من سلخ جلده بالسياط.

هنا رجع فريدريك إلى نفسه، وفي لحظة حاسمة قرر رفض الاستسلام ومواجهة السيد المستبد. دخل معه في عراك يدوي شديد انتهى بالتعادل، ولكنه كان في صالح فريدريك، حيث قال عنه لاحقا: في هذه اللحظة تحررت وأدركت أن قوة ربي معي.

كان من الممكن أن تكلفه هذه الخطوة حياته، فقد توقع أن يرجع سيده بالبندقية فيطلق عليه النار ويقتله دون خوف من حساب، ولكن هذا لم يحصل، إذ أدرك السيد أنه من الأفضل له تركه، فلو انتشرت الإشاعة عنه أنه فشل في تربية هذا العبد فقد يخسر سمعته في المنطقة.

عمل فريدريك فيما بعد في حوض لبناء السفن، ثم تمكن من الهرب عام 1838 م وتوجه إلى مدينة نيوبدفورد بولاية ماساشوسيتس. ولكي يتجنب القبض عليه وإعادته للعبودية حذف الاسمين الأوسطين من اسمه الرباعي، وغير اسمه الأخير إلى دوغلاس، ثم عاد إلى مهنته السابقة في بناء السفن، ولكن زملاءه رفضوا العمل معه لأنه من السود.

ارتبط دوغلاس بعد ذلك بعدة أعمال هامشية، مثل جمع القمامة، وحفر الأنفاق، غير أنه لم يستسلم لهذا المصير وواصل تطوير ذاته ليصبح لاحقا المتحدث الأول باسم الأمريكيين السود في القرن التاسع عشر الميلادي.

التفاصيل في المقال القادم بإذن الله.

شاعر وأديب