المؤسسات أجدى وأبقى
لا يجادل أحد اليوم في أهمية العمل المؤسساتي ودوره في تحقيق الإنجازات المطلوبة في أي مجال من المجالات. ويمكننا بسهولة التعرف على مدى حيوية مجتمع من المجتمعات من خلال اهتمامه بإنشاء المؤسسات المدنية التي تؤدي وظائفها المطلوبة في تحسين وتنمية البيئة الاجتماعية وفق أسس وضوابط وهياكل وأفراد تشكل منظومة عملية متكاملة تهدف لتحقيق رسالة واحدة.
العمل المؤسساتي اليوم هو ضرورة لمن أراد ركوب قاطرة التقدم وسعى لها سعيها، وليس خيارا يمكن استبداله بغيره. وإذا كنا نطمح ونتطلع لدولة المؤسسات، فإن علينا من باب أولى القيام بإنشاء مجتمع المؤسسات باعتباره اللبنة الأساسية والمدماك الذي يقوم عليه البناء الأكبر.
يتميز العمل المؤسساتي عن العمل الفردي بالعديد من الخصائص والمزايا التي تمكنه من الوصول إلى أهدافه بتكلفة أقل وبصورة أمثل، حيث يحقق مبدأ التعاون والتكامل بين مختلف الطاقات مما يُعظم العائد منها. كما أنه يضمن نوعا من الاستقرار النسبي في أداء العمل واستمراره، وينمي روح المسؤولية الاجتماعية، ويكون أقرب إلى روح الشورى وأبعد عن النزعة الفردية والتسلطية؛ الأمر الذي يجعل رؤيته أكثر موضوعية وأقدر على مواجهة الصعاب والعراقيل.
لقد انتبه السود في أمريكا منذ وقت مبكر لهذه الحقيقة، فقاموا بإنشاء العديد من المؤسسات التي تعنى بتطوير مجتمعهم وتتبنى قضاياهم وتعمل على نيل حقوقهم. فبعد اعتناق أعداد متزايدة منهم الدين المسيحي أسسوا منذ منتصف القرن الثامن عشر ما عرف باسم الكنيسة السوداء، وهي عبارة عن مجموعة أبرشيات خاصة بهم كانت تقوم في أحيان كثيرة بالدمج بين المسيحية ومظاهر الثقافات والمعتقدات الدينية السابقة للسود، وشكلت مأوى روحيا لهم، وتخرج منها الكثير من شخصياتهم.
ولم يقتصر العمل المؤسساتي على الكنيسة السوداء فقط، بل تمكن السود من إيجاد مؤسسات أخرى مثل معهد توسكيغي الذي أنشأه بوكر تي واشنطن للتنمية العلمية، وحركة نياغرا التي أنشأها المؤرخ وعالم الاجتماع دوبوا وعدد من المفكرين السود، وهي تعنى بالحقوق المدنية، والجمعية الموحدة لتحسين وضع الزنوج UNIA التي تهتم بالتنمية الاقتصادية، ومؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية SCCC والجمعية الوطنية لتقدم الملونين NAACP وغيرها من المؤسسات.
وقد كان لهذه الأخيرة ( الجمعية الوطنية لتقدم الملونين ) دور تاريخي كبير في تمكين السود وتنميتهم ورفدهم بالقادة الذين لعبوا أدوارا هامة في حركة الحقوق المدنية أمثال مارتن لوثر كينج ومدغار إيفرز وروزا باركس. تأسست هذه الجمعية في عام 1909 وظلت إلى اليوم تعمل بكفاءة عالية وتضم الآلاف من الأعضاء الذين يناضلون من أجل العدالة الاجتماعية في أمريكا.
بالطبع لم يتهم أحد هذه المنظمات بالولاء لأفريقيا، ولم ينكر أحد عملها باعتبارها مؤسسات تهتم بطائفة معينة من المجتمع الأمريكي، ولم يكابر الساسة الأمريكيون فيدعون أن العدالة الاجتماعية متحققة وأن أفراد المجتمع الأمريكي سواسية كأسنان المشط، لأنهم يدركون أن التجاوزات موجودة وأن تحقيق العدالة عملية مستمرة لا تتم بسن القوانين فقط، وإنما تحتاج إلى ثقافة ورقابة أيضا.
لدى السود اليوم المزيد من المنظمات التي تعمل على أصعدة علمية وثقافية واقتصادية واجتماعية ودينية. ويمكن لمن أراد التعرف على نشاطات تلك المنظمات الدخول إلى موقع [aawc] حيث توجد عناوين لمواقع 35 منظمة مختلفة الاهتمامات يمثل الإنسان الأسود بؤرة اهتمامها.
ومن خلال الاطلاع على الرسالة الخاصة بكل واحدة منها يمكننا أن ندرك أهمية إنشاء مؤسسة خاصة لكل منشط من المناشط الاجتماعية. هناك مثلا حركة تعويضات أفريقيا للمطالبة بتعويضات عن استرقاق الشعوب الأفريقية ولتغيير الصورة المشوهة للتاريخ الأفريقي، وهناك منظمة لمحو الأمية الحاسوبية، وأخرى لتوظيف طلاب الدراسات العليا، وأخرى لإعداد قادة المستقبل، وأخرى لمشاريع العمل الإيجابي، وأخرى للتوعية بالقانون والحقوق المدنية، وأخرى لتعريف اليابانيين بثقافة السود، وهكذا. كما أن بعضها ذو نشاط مختص بفئة معينة كالمهندسين والطيارين والصحفيين والمصممين والمحامين والقضاة وطلبة القانون.
إننا بحاجة ماسة للاطلاع على التجارب الناجحة للآخرين والاستفادة منها، لأن النجاح ليس سحرا أو طلاسم بل هو وصفة ذات مقادير دقيقة يمكن تناولها للشفاء من داء الإخفاقات، و" الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجد أحدكم ضالته فليأخذها" كما يقول الإمام الصادق .