فلنكن سنغافوريين


 

 

سنغافورة دولة متعددة الأعراق استطاعت تحقيق الاندماج بين مكوناتها من خلال الاعتراف بالتعددية أولا، وتضمين ذلك في الدستور، والعمل ثانيا على سن الأنظمة والإجراءات التي تكفل التعبير عن الدستور على أرض الواقع.

تتكون سنغافورة من ثلاث مجموعات عرقية أساسية هي: الصينيون (74%)، المالاوي (13%)، الهنود (3%). والنسبة المتبقية لمجموعات أخرى مختلفة. ومن الناحية الدينية هناك الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها، ومن الناحية اللغوية هناك الإنجليزية والمندارين والمالاوية والتاميل كلغات رسمية.

إذن نحن أمام نموذج لمجتمع متعدد الهويات وفي مساحة جغرافية ضيقة (710.2) كم مربع. كان يمكن لهذا المجتمع أن يكون نموذجا للتناحر وفرض ثقافة الأغلبية على الأقليات بالقسر والإكراه تحقيقا لهوس التطهير العرقي الناتج عن ثقافة متورمة تنصب نفسها معيارا أعلى لا يرقى إليه التساؤل والنقد، وبوتقة كبرى ينصهر فيها كل مختلف حتى لا يبقى من هويته وشخصيته شيء.

يذكر نص التعليق على "إعلان الأقليات" الصادر عن الأمم المتحدة بأن العلاقات بين الدولة وأقلياتها في الماضي أخذت خمسة أشكال مختلفة: الاستئصال والاستيعاب والتسامح والحماية وتعزيز الهوية. والمقصود بالاستيعاب هنا هو غير الاندماج، حيث الأول قسري يهدف إلى إذابة الأقليات، بينما ينمي الثاني مجالا مشتركا تسود فيه الحقوق المدنية المتساوية وحكم القانون ويسمح فيه بالتعددية في الثقافة واللغة والدين؛ فالاندماج ضروري لتحقيق هوية وطنية جامعة.

اختارت سنغافورة تحقيق الاندماج بين مكوناتها المختلفة من خلال إرساء قواعد التسامح وتوفير الحماية لكل هوية وتعزيز وجودها داخل محيطها. واستطاعت بالتالي أن تجعل من التنوع فيها ثراء لا مشكلة مستعصية أو مجموعة من الأورام التي ينبغي استئصالها.

فالمسلمون مثلا (13% تقريبا من السكان) يتمتعون بالكثير من الحقوق الخاصة بهم كأقلية في مجال التعليم والمشاركة السياسية والأحوال الشخصية وغيرها. هناك على سبيل المثال العديد من المؤسسات الإسلامية الرسمية التي تخدم الشؤون الخاصة بالمسلمين، مثل المجلس الإسلامي السنغافوري، والمحكمة الإسلامية والمحكمة الشرعية وهيئة الأحوال الشخصية. ويقوم المجلس الإسلامي بأداء العديد من الوظائف كجمع الزكاة والإشراف على الأوقاف وشؤون الحج والتصدي للإفتاء.

هذه المؤسسات هي التعبير الحقيقي عن التسامح والحماية وتعزيز الهوية التي يؤكد عليها "إعلان الأقليات"، وهي التي كفلت لسنغافورة مجتمعا مشغولا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بدلا من دخوله حروبا مع طواحين الهواء التي تستنزف قدراته وطاقاته ولا تزيده إلا خسارا.

قد يروق لنا كمسلمين الانبهار بالنموذج السنغافوري، ولكن المشكلة تكمن في عبور لحظة الانبهار والدهشة إلى عالم الواقع، إذ نشهد كل يوم تصاعد وتيرة الانقسامات في مجتمعاتنا، وسيادة لغة التعصب ذات النبرة العالية التي لا تريد لأحد أن يسمع غير صوتها.

من المعيب حقا أن نفتخر بما تحصل عليه الأقليات الإسلامية في أوطان نصنفها ب(الكافرة)، بينما نمارس أقصى حالات التهميش والإلغاء للأقليات الطائفية داخل بلادنا الإسلامية، والأنكى من ذلك أن يتم تمرير الإقصاء باسم الدين والوطنية.

أليس من حق الطوائف الإسلامية في المجتمع الإسلامي أن تكون لها مجالسها الخاصة ومحاكمها الخاصة التي تتفق مع فقهها المستمد من الكتاب والسنة؟ إن وجود المؤسسات الخاصة بالأقليات يعزز انتماءها الوطني، ويجعلها تتمسك أكثر بالهوية المشتركة، أما محاولات التهميش فإنها وكما أثبت التاريخ تنتهي إلى الفشل الذريع، والاتحاد السوفياتي خير شاهد على ذلك حين حاول طمس الهويات في كيانه الكبير فانتهى به الأمر إلى الزوال وصعود الهويات بعد سنوات الكبت والقمع والإذلال.

شاعر وأديب