حق الرجلين

 

 

 

 


 
وَأَمَّا حَقُّ رِجْلَيْكَ فَأَنْ لا تَمْشِي بهِمَا إلَى مَا لا يَحِلُّ لَكَ وَلا تَجْعَلْهُمَا مَطِيَّتَكَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَخِفَّةِ بأَهْلِهَا فِيهَا فَإنَّهَا حَامِلَتُكَ وَسَالِكَةٌ بكَ مَسْلَكَ الدِّينِ، وَالسَّبْقُ لَكَ، وَلا قُوَّةَ إلا بالله.

عندما يتصرف الإنسان مع جوارحه ملتفتا لكونها ذات حقوق عليه، وأنه لا يحق له التصرف فيها كيف يشاء، إذ بينه وبين مالكها الحقيقي عهد بأن يكون بكله، بجوارحه وجوانحه، عبدا حقيقيا محضا له لا لغيره؛ فإن استخدامه لتلك الجوارح سيكون مؤطرا دائما بالعبادة، مما يجعل لحياته طعما آخر، حيث العبادة والعبودية حاضرتان في كل حركة وسكنة.

فهو عبد، وجزء العبد عبد، فإذا كان المطلوب من الكل أن يكون عبدا، فلا يمكن أن يتحقق ذلك من غير أن تصل الأجزاء أيضا ومنها الجوارح إلى العبودية الخالصة لله، وتلك غاية خلقها التي فيها كرامتها وعزتها ووقارها.

من خلال ما مضى من الحديث عن حقوق الجوارح من لسان وسمع وبصر ويد، نلاحظ التركيز على الجانب السلبي أولا في تهذيب سلوك الجوارح، أعني الامتناع عن الحرام، وهو الجانب الذي يبني إرادة الإنسان وينمي شخصيته. فبدون القدرة على مقاومة الشهوات والمغريات يصبح الفرد ريشة في مهب الريح "في الطريق المستخفة بأهلها".

فأول حقوق اللسان كان إكرامه عن الخنا أي القول الفاحش، وأول حقوق السمع تنزيهه عن الحرام ، وأول حقوق البصر غضه، وأول حقوق اليد عدم بسطها فيما لا يحل لها.

وكذلك أول حقوق الرجلين عدم المشي بهما لارتكاب شيء محرم، مما يعني أن على الإنسان أن يحسب كل خطوة يخطوها ليعرف إلى أين هو ذاهب برجليه، حتى لا يكتشف في نهاية المطاف أنه كان يمشي في الطريق الخطأ.

إذا فعل المرء ذلك، ثبتت قدماه على زحاليف الطريق ومنزلقاته في الدنيا، وثبتت بالتالي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام. هذه هي المعادلة التي ينبغي أن ندركها جيدا ونعمل وِفقها، وبذلك يكون السبق لنا فعلا.

شيء آخر ينبغي تذكره واستحضاره دائما، وهو أن الرجلين يوم القيامة ستكون قادرة على النطق والإدلاء بشهادتها أيضا. ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) يس.

إذن فلنحترم حقوق هذه الجارحة وغيرها من الجوارح كي نعيد صياغة ذواتنا لتكون أهلا لعبودية الله تعالى فتتحرر من ربقة الأهواء وتتخلص من كل ما يشدها إلى الأرض ويثقل حركتها نحو السماء.

يبقى أمر أخير وهو ما ختم به الإمام كلامه في هذا المقطع من الرسالة الشريفة بقوله: "ولا قوة إلا بالله"، مذكرا لنا بما أوجزته الآية الخامسة من سورة الفاتحة خير إيجاز تضمن العديد من اللطائف الدقيقة في قوله تعالى:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5).

يقول صاحب تفسير الأمثل معقبا على هذه الآية: هذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.

توحيد العبادة: يعني الاعتراف بأن اللّه سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع، و بالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أيّ نوع من العبودية والتسليم، لغير ذاته المقدسة.

و توحيد الأفعال: هو الإيمان بأن اللّه هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل يعني الإيمان بأن تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر اللّه، فاللّه سبحانه هو الذي يمنح النار خاصية الإحراق، والشمس خاصية الإنارة، والماء خاصية الإحياء.

ثمرة هذا الاعتقاد أن الإنسان يصبح معتمدا على (اللّه) دون سواه، ويرى أن اللّه هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحا لا حول له ولا قوّة، وهو وحده سبحانه اللائق بالاتكال والاعتماد عليه في كل الأمور.

هذا التفكير يحرر الإنسان من الانشداد بأي موجود من الموجودات، ويربطه باللّه وحده. وحتى لو تحرك هذا الإنسان في دائرة استنطاق عالم الأسباب، فإنما يتحرّك بأمر اللّه تعالى، ليرى فيها تجلّي قدرة اللّه، وهو «مسبّب الأسباب».

هذا المعتقد يسمو بروح الإنسان ويوسّع آفاق فكره، ليرتبط بالأبدية واللانهاية، ويحرر الكائن البشري من الأطر الضيقة الهابطة.

شاعر وأديب