حق الرعية

 

 

 


فأَمَّا حُقُوقُ رَعِيَّتِكَ بالسُّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أنَّهُم صارُوا رَعيتَكَ لِضَعْفِهِم وقُوَّتِكَ فيَجِبُ أنْ تَعدِلَ فيهم وتَكونَ لَهم كالوالِدِ الرَّحيمِ، وتَغْفِرَ لَهم جَهْلَهُم ولا تُعاجِلَهُم بالعُقوبَةِ، وتشكر الله عزَّ وجَلَّ على ما آتاكَ مِنَ القُوَّةِ عليهِم.

السلطة كما ذكرنا سابقا أمانة، وهي في ذات الوقت قوة كثيرا ما يُساء استعمالها. فالقوة بشكل عام تغري صاحبها – إلا من رحم ربي – بتجاوز الحد والتعسف، ولذا فإنه ينبغي وضع الضوابط والقيود لكبح جماحها. وفي العصر الحديث يتم توزيعها بين ثلاث قوى هي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وذلك منعا لتمركزها في جهة واحدة، ولإحداث التوازن بين مكوناتها.

ومع ذلك، فإن قابلية أي سلطة للتعدي تظل قائمة ما لم تكن تملك رادعا داخليا. والشواهد على ذلك كثيرة؛ فما أكثر ما انتهكت حقوق الإنسان باسم حقوق الإنسان، ولطالما تم كبت الحريات باسم المصلحة العامة.

فرق كبير جدا بين من ينظر للسلطة كقوة يتطاول بها على الآخرين دون أدنى مراعاة لحقوقهم، ومن ينظر إليها باعتبارها ابتلاء ينبغي اجتيازه بنجاح، كما قال النبي سليمان عليه السلام:﴿هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) سورة النمل.

وهكذا أوصى الإمام علي عليه السلام عبد الله بن عباس مبينا له الهدف الحقيقي من السلطة والولاية، محذرا له من الانحراف في أدائها:" أما بعد فلا يكن حظك في ولايتك مالا تستفيده ولا غيظا تشتفيه، ولكن إماتة باطل وإحياء حق".

في هذا المقطع من رسالة الحقوق يبين الإمام علي بن الحسين عليه السلام حقوق الرعية على صاحب السلطة، والتي تتمثل في:

1- العدل: فهو الأساس الأول للحكم، والذي بدونه تتزلزل السلطة وتندلع الثورات والاضطرابات. يقول الإمام علي عليه السلام: "العدل أساس به قوام العالم" و "العدل أقوى أساس" و "إن العدل ميزان الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه" و "العدل قوام الرعية وجمال الولاة".

والنصوص الشريفة في العدل كثيرة جدا، يؤكد جميعها على أهميته في صلاح الأمة واستقرارها وازدهارها، فهو كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة بليغة موجزة:" العدل جُنة واقية، وجَنة باقية"، فبه كما تقول الروايات تصلح الرعية وتتضاعف البركات وتعمر البلدان وتثبت الدول.

إن عدم الأخذ بهذا الأصل المضيع هو السبب الرئيس في ثورات الربيع العربي وغيرها من الثورات، حيث حل محله الاستبداد والاستئثار وإهدار الثروات وغياب العدالة الاجتماعية.

2- القيادة الأبوية الرحيمية الحريصة على مصلحة أبنائها جميعا، وليس على مصلحة بعضهم دون بعض. هكذا كان صاحب الخلق العظيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين وصفه القرآن الكريم بقوله تعالى:

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) سورة التوبة.

3- الأصل في التعامل العفو وإقالة العثرات وعدم التعجيل في العقوبات. ولعل من أجمل الوصايا في هذا الشأن ما اشتملت عليه وصية أمير المؤمنين علي عليه السلام لمالك الأشتر حين ولاه مصر:

"وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أو نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ".

4- شكر الله تعالى على نعمة القوة والسلطة. وهذا – وإن كان حقا لله تعالى – إلا أنه ينعكس إيجابا على الرعية. فعندما يكون صاحب السلطة معترفا بنعمة الله شاكرا لها، فإن أداءه سيختلف عن الآخر الذي يظنها مغنما من المغانم يتصرف فيها كيف يشاء، يستعبد بها عباد الله، وينهب أموالهم ومقدراتهم.

شاعر وأديب