حق المتعلم

 

 

 

 

وأمَّا حَقُّ رَعِيَّتِكَ بالعِلْمِ فَأَنْ تَعْلَــمَ أَنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَكَ لَهُمْ خازنا فِيمَـــــــا آتاكَ مِنَ الْعِلْمِ وَولاّكَ مِنْ خَزَانةِ الْحِكْمَةِ، فَــــــــــإنْ أَحْسَنْتَ فِيمَــــــا ولاّكَ اللهُ مِنْ ذلِكَ وَقُمْتَ بهِ لَهُمْ مَقَامَ الخَـــــازِنِ الشَّفِيقِ النَّـــــــاصِحِ لِمَـــولاهُ فِي عَبيدِهِ، الصَّــــــابرِ الْمُحْتَسِب الَّذِي إذَا رأَى ذا حَـــــاجَةٍ أَخرَجَ لَهُ مِنَ الأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدَيهِ كُنْتَ رَاشِدًا، وَكُنْتَ لـــــــــــــِذَلِكَ آمِلاً(خادم الرجل وعونه الذي يأمله) مُعْتَقِدًا وَإلاّ كُنْتَ لَهُ خَائِنًا وَلِخَلقِهِ ظَالِمًا وَلِسَلْبهِ وَعِزِّهِ مُتَعَرِّضًا.

في مكارم الأخلاق: فَإنْ أحْسَنْتَ في تعلُّمِ الناسِ ولَم تَخرِقْ بهم ولَم تَضْجُرْ عليهم زادَكَ الله مِنْ فَضلِهِ، وإنْ أنت مَنَعْتَ الناسَ علمَكَ أو خَرَقْتَ بهم عِنْدَ طَلَبَهِم العِلمَ مِنكَ كانَ حقاً عَلي اللّهِ عز وجل أن يَسْلِبَكَ الْعِلْمَ وبَهاءَهُ ويَسقُطَ مِنَ القلوب مَحَلَّكَ.

أولت الآيات الكريمة والروايات الشريفة مكانة خاصة للعلم والعلماء. قال تعالى:<قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9) سورة الزمر.

فالعلماء ينبغي أن يكونوا في مرتبة خاصة في مجتمعاتهم كما هم عند الله تعالى. ويكفي العلماء شرفا أن جعل خشيته حق خشيته محصورة بهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) سورة فاطر

وقد فسر الإمام الصادق المقصود بالعلماء هنا كما ورد عنه عليه السلام، فقال:" يعني بالعلماء من صدق قوله فعله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم".

العلماء ورثة الأنبياء ومصابيح الأرض، يرجح مدادهم على دماء الشهداء. لذا كان وجودهم حياة الناس، والنظر إلى وجه أحدهم عبادة، وموته ثلمة في الإسلام لا تُسد، حتى إن موت قبيلة أيسر من موت عالم كما في الرواية.

هذه المكانة العظيمة لا تعطى مجانا، وإنما لمن قدر العلم حق قدره، وقام بأداء زكاته المتمثلة في تعليمه غيره على أكمل وجه. ولأنه إذا فسد العالِم فسد العالَم، فقد ذمت الآيات والروايات علماء السوء وتوعدتهم بالعذاب الأليم، إذ إن تخلف العالم عن مسؤوليته في التصدي لبيان الحلال والحرام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنح الشرعية للفساد والمفسدين.

﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) سورة المائدة.

وعن النبي ، قال:" ويل لأمتي من علماء السوء يتخذون هذا العلم تجارة يبيعونها من أمراء زمانهم ربحا لأنفسهم، لا أربح الله تجارتهم".

إن الصورة البشعة التي رسمها القرآن الكريم مثالا لأحد علماء السوء من بني إسرائيل تكشف عن مدى الدناءة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان حين يخون أمانة العلم التي استُحفِظ عليها:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سورة الأعراف.

يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل معلقا على هاتين الآيتين: " ومن هذا يتبيّن أن الخطر الأكيد الذي يهدد المجتمعات الإنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم وميولهم الدنيوية (و الإخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لاستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامّة الناس".

إن هذا المقطع من رسالة الحقوق يضع الأمور في نصابها، حيث يبين رسالة المعلم في كونه مؤتمنا على أمانة عظيمة يجب أن يؤديها لمستحقها بأفضل طريقة، وإلا فإن العاقبة خسران العلم وسوء المصير.

لقد فصل الشهيد الثاني في كتابه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) مجموعة الآداب التي ينبغي أن يلتزمها المعلم في نفسه وفي درسه ومع طلبته، وعددها 72، نذكر منها: إخلاص النية وعفة النفس، وبذل العلم عند وجود المستحق وعدم البخل به، وتأديب طلبته بالآداب السنية الفاضلة، وترغيبهم في العلم، وزجرهم عن مساوئ الأخلاق، والتواضع لهم وعدم التعاظم عليهم، والإرفاق بهم في خطابهم وسماع سؤالهم.

وبهذا المقطع من الرسالة تكتمل حلقة الحقوق بين المعلم والمتعلم، والتي سيؤدي تطبيقها إلى خلق أفضل بيئة علمية منتجة لأعظم الآثار على مستوى الأمة والعالم.

شاعر وأديب