حق الجليس

 

 

 

 وَأمّــــا حَقُّ الجَلِيسِ فَأَنْ تُلِينَ لَهُ كَنَفَكَ، وَتُطِيبَ لَهُ جَانِبَكَ، وَتُنْصِفَهُ فِي مُجَارَاةِ اللَّفْظِ، ولا تُغْرِق فِي نَزْعِ اللَّحْــظِ إذَا لَحَظْتَ، وتَقْصُدَ فِي اللَّفْظِ إلَى إفْهَامِهِ إذَا لَفَظْتَ. وَإنْ كُنْتَ الْجَلِيسَ إلَيْهِ كُنْتَ فِي الْقِيَامِ عَنْهُ بالْخِيَارِ وَإنْ كَانَ الجَالِسَ إلَيكَ كَانَ بالخِيَارِ. ولا تَقُومُ إلا بــإذْنِهِ.وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.

يقف الإنسان مندهشا أمام الاستقصاء الحقوقي البديع في هذه الرسالة الشريفة التي جاءت بتفصيل محكم غير مسبوق، ورسمت الخطوط العريضة لمجتمع الحقوق من وجهة النظر الإسلامية. إنها بالفعل مصداق جلي لما قاله الإمام الرضا عليه السلام:" فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا ". 

الإنسان كائن اجتماعي لا يستغني عن مجالسة الآخرين وإمتاعهم ومؤانستهم؛ لذا فقد اهتم الشرع الحنيف في الكتاب والسنة بهذا الأمر اهتماما كبيرا، بدءا باختيار المجالس التي ينبغي للإنسان أن يقصدها، والأخرى التي يتجنبها مرورا بآداب المجالس وأحاديثها وأذكارها وحق الجليس وانتهاء بكفارتها ومسك ختامها.

فقد حث الإسلام على حضور مجالس العلماء والحلماء والحكماء والأبرار والإخوان الأتقياء والزهاد والفقراء والمساكين وأهل الورع والصلاح، ونهى عن مجالس الجاهلين والغافلين والأشرار وأبناء الدنيا وأهل البدع والهوى وطغاة الأغنياء. ونذكر هنا بعض الروايات:عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قالوا -  أي الحواريون لعيسى (عليه السلام) -:

يا روح الله فمن نجالس إذا؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله.

قال لقمان - لابنه -: يا بني! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله عز وجل يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء.

عن الإمام علي : جالس الحلماء تزدد حلما.

عن رسول الله : إياكم ومجالسة الموتى! قيل: يا رسول الله، من الموتى؟ قال: كل غني أطغاه غناه.

عن الإمام الصادق : لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم.

وللنبي تقسيم ثلاثي للمجالس "غانم وسالم وشاحب، فأما الغانم فالذي يُذكر الله تعالى فيه، وأما السالم فالساكت، وأما الشاحب فالذي يخوض في الباطل". فقيمة المجلس إذن تتحدد بمقدار ذكر الله فيه.

في هذا المقطع  من رسالة الحقوق حديث عن حق الجليس يتناول آداب المجالسة النفسية والسلوكية، وهي أمور كثيرا ما يغفل عنها الناس، فتتحول المجالس إلى ساحات كلامية مفتوحة من غير ضوابط، مادتها الأساسية اللغو والغيبة والبهتان، تنجح في قتل الوقت وتفشل في إحياء النفوس.

حق الجليس كما فصله الإمام عليه السلام يتمثل في التالي:

  1. لين الجانب، أو (الكَنَف) بحسب الرواية، وذلك كناية عن التواضع.
  2. تطييب الجانب، وذلك كناية عن الإقبال على الجليس وحسن الخلق.
  3. الإنصاف في الحديث بتوزيع الوقت بشكل عادل خصوصا في المناقشات والمناظرات. حيث يميل البعض إلى ما يمكن أن نسميه تطفيفا في حديث المجلس، فيستولي على القسط الأكبر منه، ولا يترك للآخرين إلا الفتات.
  4. مراقبة الألحاظ أو لغة العين، فَ (رُب لحظ أبلغ من لفظ)، فالنظرة الجانبية الحادة المعبر عنها بالإغراق في نزع اللحظ ترسل إشارات سلبية للطرف الآخر.
  5. مراقبة الألفاظ؛ بأن تؤدي المقصود خير أداء، وتراعي مستوى المخاطَب وتهدف إلى إفهامه لا إفحامه.
  6. مراعاة حق القيام من المجلس؛ وهو تابع للضيف القادم إلى المجلس لا للمُضيف. فإذا كنتَ الضيف تستطيع أن تقوم من المجلس متى تشاء، وإذا كنتَ المُضيف فعليك الانتظار حتى يقوم الضيف.

هذا يستدعي بالطبع أن يراعي الضيف أيضا ظروف الآخرين، فلا يُثقل عليهم، أو يستهلك أوقاتهم. وقد نهى القرآن بعض صحابة النبي عن الجلوس بعد الطعام وإطالة الحديث في بيت النبي مما يوقعه في حرج، وهو صاحب الخلق العظيم: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) 53، سورة الأحزاب.

شاعر وأديب