المواطنة أساس التعايش في الدولة الحديثة
لم تصل أوروبا إلى ما وصلت إليه من إرساء مفهوم المواطنة وتحويله إلى مفردات محبوكة بعناية في نسيج الدولة ومفاصلها وفي ثقافة المواطن الفرد وسلوكه، إلا بعد صراعات مريرة سالت فيها أنهار من الدماء والدموع المختلطة بالجراحات البعيدة الغور.
للأسف كان الثمن الذي دفعه الإنسان الغربي باهظا جدا حتى وصل إلى صيغة المواطنة في صورتها الحالية والتي كانت الدواء الناجع للخروج من دوامة التمزق والصراع إلى آفاق التعايش والتسامح وقبول الآخر، وبالتالي الدخول إلى دولة القانون والمؤسسات.
ولشديد الأسف فإننا في العالم العربي لم نستوعب هذا الدرس التاريخي حيث لا زلنا نصر على المرور بنفس النفق المظلم وارتكاب الحماقات ذاتها قبل أن نقتنع بأن غيرنا أصابه هذا الداء العضال واكتشف دواءه وجربه وتعافى كليا.
لقد تخلص الغرب من النزاعات الطائفية والعرقية وغيرها بإعماله مبدأ المواطنة القائم على المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز وعلى الحرية المكفولة للجميع بنحو سواء وعلى المشاركة السياسية والمسؤولية الاجتماعية المشتركة.
لقد تغير تبعا لذلك مفهوم الدولة في الغرب، فتحولت من دولة الحماية إلى دولة الرعاية التي ترعى جميع مكوناتها وتقف على مسافة متساوية منهم جميعا بغض النظر عن أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو قناعاتهم الفكرية؛ فدولة المواطنة هي دولة الكفاءات لا الولاءات.
لم تعد الدولة بحاجة إلى استئصال بعض شعبها عن طريق التطهير العرقي أو التهجير القسري حفاظا على العنصر الغالب. ولم تعد تفكر في التخطيط لإحداث تغيير ديموغرافي في تركيبتها السكانية تغليبا لفئة على أخرى.
استطاع الغرب من خلال تبني هذا المفهوم ابتكار الصيغة المناسبة للتعامل مع اختلافات البشر الطبيعية في الجنس والعرق واللون والدين والمذهب والفكر واللغة عن طريق الاعتراف بها وإيجاد القنوات اللازمة للتعبير عنها بما يصب في مصلحة الوطن.
وبذلك تحول الاختلاف إلى تنوع يزيد الدولة ثراء ويمدها بمزايا إضافية ما كانت لتحصل عليها لو لم تتخذ المواطنة أساسا للتعايش وسبيلا للتقدم. أما نحن فلا نزال مسكونين بهواجس الخوف من الآخر المختلف والقلق على تشظي هوياتنا الفرعية وذوبانها، وكأننا غير واثقين من صلابتها وقدرتها على البقاء. هذه الهواجس يستفيد منها المتمصلحون من بقاء الحال على ما هي عليه ويجيدون اللعب على أوتارها الحساسة.
كان بإمكان لبنان أن يتجنب الحرب الأهلية المقيتة التي لم تستثنِ أحدا واستمرت أكثر من 16 عاما لو أن المواطنة الحقيقية كانت متبناة فيه. ولكن الاستعمار الفرنسي لم يخرج منه إلا بتكريس الدولة الطائفية التي بقيت حتى هذا اليوم ولم يمكن تجاوزها حتى بعد اتفاق الطائف.
وكما لبنان، كذلك فعل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي جعل المحاصصة عنوانا للعبته السياسية، مستثمرا الهواجس ورواسب تاريخ الاستبداد لإعاقة إنتاج دولة المواطنة كي يستمر في اللعب على التناقضات.
ويمكننا قياس المسافة الفاصلة بيننا وبين المواطنة بردة الفعل التي أحدثها افتتاح حسينية للشيعة المصريين في القاهرة، حيث أجمع الأزهر والسلفيون والصوفيون على ضرورة التصدي لهذا الحدث الذي اعتُبِر خطيرا على هوية مصر ووحدتها، كأنه لا يجوز لهذا المكون من مكونات المجتمع أن يمارس شعائره بحرية.
بل نرى أن الأزهر انقلب بسرعة على وثيقة الحريات التي كان أصدرها قبل افتتاح الحسينية بعدة أشهر، والتي نصت مادتها الأولى على التالي:
"تُعتَبر حريّةُ العقيدة وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية".
لقد سقطت الوثيقة عند أول اختبار ونسيت ما تضمنته من نص صريح يقول: فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام .