المنقذ في يد فرعون


 

 

 

﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) القصص.

تأخذنا هذه الآية إلى مشهد جديد طاوية في البين ما فصلته سورة طه، فبعد أن أرضعت أم موسى مولودها فترة من الزمن، خافت عليه من جواسيس فرعون، فجاءها الوحي مرة أخرى: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي .

فاستجابت أم موسى لنداء الوحي في تسليم لله يكشف عن إيمانها العميق، وألقت – وهي الأم الرؤوم – مولودها سريعا في التابوت ثم في النهر ليقع ما كانت تخشاه فعلا، وهو وصول مولودها إلى يد عدو الله وعدوه الذي كان قد استنفر كل قواه الأمنية للقضاء على أي مولود ذكر من بني إسرائيل حفاظا على ملكه من الزوال.

ففي الرواية عن الصادق عليه السلام، قال: إن فرعون لما وقف على أن زوال ملكه على يد موسى أمر بإحضار الكهنة فدلوه على نسبه وأنه من بني إسرائيل فلم يزل يأمر أصحابه بشق بطون الحوامل من بني إسرائيل حتى قتل في طلبه نيفا وعشرين ألف مولود وتعذر عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ اللّه تبارك و تعالى إياه .

لقد ارتكب فرعون وزبانيته المذابح الجماعية ظنا منهم أنهم سيستطيعون تأخير الوعد الإلهي أو الالتفاف عليه، ولكنهم جميعا كانوا خاطئين فيما فعلوا وفيما دبروا وفيما ظنوا.

لقد سخر منهم القدر أعظم سخرية، فبينما جواسيسهم وجلاوزتهم ينتشرون في كل زاوية بحثا عن المولود المنتظر، إذ به يأتيهم بنفسه مجردا من أي حماية سوى حفظ الله، وإذا بهم هم من يلتقطه ويأخذه من عرض النهر وينقذه من الموت المحقق، بل ويقوم بتربيته ورعايته، فكأنهم يكتبون بأيديهم الفصل الأخير الذي كانوا يفرون منه، ويفعلون كل شيء لتفادي وقوعه. ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا

ها هو من يفتشون عنه يأتيهم إلى دارهم، وهم في لحظة من لحظات الأنس، يصفها الإمام الباقر عليه السلام كما في الرواية: "وكان لفرعون قصر على شط النيل منزها فنظر من قصره ومعه آسية امرأته إلى سواد النيل ترفعه الأمواج والرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت ورفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال: هذا إسرائيلي! فألقى اللَّه في قلب فرعون لموسى محبة شديدة و كذلك في قلب آسية وأراد فرعون أن يقتله فقالت آسية ﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَأنه موسى" .

لقد عرف فرعون أن الطفل الذي في التابوت إسرائيلي، لأنه لو لم يكن إسرائيليا لما رموه في البحر، ولكنه – مع ذلك – لم يقتله، لأن الله شاء إبقاءه تحقيقا لوعده. أرادوا قتله إنفاذا للتوجيهات المعمول بها في ذلك الوقت، فتدخلت يد القدرة الإلهية على لسان ملكة القصر التي ألقيت محبة الطفل في قلبها، فقالت كلمتها التي حفظت المخلص الموعود: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً.

كيف غفل فرعون وهامان وجنودهما عما كان يشغل بالهم ليل نهار؟ ولماذا استبعدوا – من حيث لا يشعرون – احتمال أن يكون هذا الطفل هو الموعود حقا؟

لا تفسير لذلك سوى إنه التدبير الإلهي الذي لا نقص فيه ولا خلل، المحكم أشد الإحكام، والمتقن غاية الإتقان. هم يريدون والله يريد ولا يكون إلا ما يريد.

شاعر وأديب