موسى يدخل المدينة ( 2 من 2 )


 

 

 

كنا بالأمس قد وصلنا إلى ما يذكره صاحب الميزان في تفسير قوله تعالى: ﴿قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ و الذي هو اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في قوله: ﴿فَاغْفِرْ لِي هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغم و تخليصه من شر فرعون.

ولنستعرض اليوم ما يؤكد هذا المعنى بعرض الرواية التالية:

في عيون الأخبار بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قول الله تعالى ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ قال الرضا : إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء ﴿فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات ﴿قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسى من قتله ﴿إنه يعني الشيطان ﴿عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قال المأمون: فما معنى قول موسى ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة ﴿فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

وقفات:

1- قوله ﴿ فلما بلغ أشده : توجد ثلاثة تعبيرات قرآنية بهذا الخصوص. ففي شأن النبي يوسف ، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) يوسف. وفي شأن موسى في سورة القصص قال: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) . وفي سورة الأحقاف قال: ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ .

إذن هناك ثلاث مراحل: بلغ أشده، بلغ أشده واستوى، بلغ أشده وبلغ أربعين سنة. أما بلوغ الأشد فهو بداية اكتمال القوى عند سن البلوغ أو عند ثماني عشرة سنة، وأما الاستواء فيعني الوصول إلى مرحلة الاستقرار والاعتماد على الذات، كما قال تعالى ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ وهي مرحلة متوسطة بين بداية الاكتمال ونهايته ببلوغ أربعين سنة.

وجاء في تفسير نور الثقلين الرواية التالية:
"في كتاب معاني الاخبار حدثنا أبى رحمه الله قال: حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن أحمد بن هلال عن محمد بن سنان عن محمد بن عبد الله بن رباط عن محمد بن النعمان الأحول عن أبي عبد الله في قول الله عز و جل:
فلما بلغ أشده واستوى قال: أشده ثمان عشر سنة ﴿واستوى التحى" .

2- قوله ﴿َكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ دليل على أن المواهب الإلهية لا تعطى جزافا، بل تمنح لمن يستحقها. فالحكم والعلم الإلهيان اللذان أعطيهما موسى كانا جزاء إحسانه. وهكذا يؤتى كل محسن بقدر إحسانه مقدارا من الحكم والعلم الإلهيين.

3- تأثير البيئة المحيطة ليس أمرا حتميا، فهذا موسى عاش في بيئة فرعونية، إلا أنه لم يتأثر بها مطلقا، بل كان على الضد منها. كما إنه كان يمارس أفعال الخير والإحسان في جو قائم على العداء والاستعباد.

4- دخوله المدينة على حين غفلة من أهلها إما على سبيل الاحتياطات الأمنية لأن فرعون هم بقتله كما ذكرت الرواية المذكورة سابقا، أو لتفقد شؤونها والإحسان تحت جنح الظلام إلى محتاجيها. وفي كلا الأمرين هناك مراعاة لاختيار الوقت المناسب.

5- يقول السيد المرتضى علم الهدى رحمه الله في كتابه ( تنزيه الأنبياء ) في سياق تنزيهه نبي الله موسى : وكل ألمٍ يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح، ولا يستحق العوض به. ولا فرق بين أن يكون من الإنسان عن نفسه وبين أن يكون عن غيره في هذا الباب، والشرط في الأمرين أن يكون الضرر غير مقصود وأن يكون القصد كله إلى دفع المكروه والمنع من وقوع الضرر، فإن أدى ذلك إلى ضرر فهو غير قبيح .

6- تنزيه النبي موسى يمكن أن يستفاد من عدة مواضع بالإضافة لما ذكرناه في النقطة السابقة.

الأول: قوله تعالى ﴿آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، فالحكم المؤتى من الله لا يشوبه الخطأ، والعلم المعطى من الله لا يخالطه جهل.

الثاني: قوله تعالى في سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51). فالمخلَص (بفتح اللام ) لا سلطان للشيطان عليه البتة. كما قال تعالى على لسان إبليس في سورة الحجر : ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) .

الثالث: قوله عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي إذ لم يذكر أنه ظلم أحدا، ولو كان وقع منه شيء من ذلك لكان أولى بالاستغفار من ظلم النفس. والمراد من ظلم النفس هنا إيرادها مورد الخطر الذي كان يمكن تفاديه، فهو من باب ترك الأولى. وقد بلغ هؤلاء العظماء درجة عالية من معرفة الله بحيث يستشعرون التقصير في جنب الله حتى لترك الأولى، وليس لفعل المعصية. يقول الإمام السجاد في دعائه: فأما أنت يا إلهي فأهل أن لا يغتر بك الصديقون، ولا ييأس منك المجرمون .

7- قد لا نتفق مع شخص في طريقته وأسلوبه في إدارة موقف ما، وقد يكون هذا الشخص مقصرا في المقدمات، ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من مناصرته ونجدته حين يتعرض للظلم، ثم نبين له بعد ذلك الموقف الصحيح، تماما كما فعل موسى حيث لم يتأخر ولم يتوانَ عن نصرة المظلوم حين طلب إغاثته. وبعد ذلك أوضح له الموقف من الاقتتال الداخلي بقوله: ﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.

أما أن نقف على الحياد ولا ننصر المظلوم فذلك في واقعه نصرة للظالم.

8- لم يكن موقف النبي موسى منطلقا من عصبية طائفية، بل كان مبدئيا. إذ لا يكون الرجل من شيعة موسى إلا إذا كان موحدا مثله، كما قال تعالى في شأن النبي نوح ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ وكان بين نوح وإبراهيم 2640 سنة على ما قيل .

9- الاستغفار مراجعة للنفس ومحاسبة لها، وهو دليل على يقظة الضمير ونقاء النفس. وكلما طهرت النفوس زاد استغفارها لأنها تكون أرهف حسا من غيرها المتسخة بأقذار الذنوب والآثام. ومن هنا نفهم كثرة استغفار المعصومين .

10- الاعتراف بالذنب في محضر الله تعالى، وطلب مغفرته هما السبيل للعودة إلى ساحة الله وتطهير النفس مما علق بها من الأردان.

11- قوله ﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فيها توجيه لنا أيضا بأن نتأدب بأدب الله ونتخلق بأخلاقه فنغفر ونرحم بعضنا حتى نكسب غفران الله ورحمته.

شاعر وأديب