اشتباك آخر

 

 

 

 

 

﴿قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص.

بعد أن استغفر موسى ربه فغفر له، توجه إليه شاكرا نعماءه معاهدا إياه على عدم استخدام قدراته وطاقاته في نصرة المجرمين أبدا.

تنتقل بنا الآيات بعد ذلك إلى مشهد جديد في هذه القصة، حيث موسى في حالة نفسية جديدة في المدينة ﴿خائِفاً يَتَرَقَّبُ، ينتظر الأخبار حول تبعات حادثة القتل وآثارها.

وبينما هو كذلك إذ به يفاجأ بمنظر آخر يشبه منظر الأمس، فالإسرائيلي الذي طلب منه النصرة بالأمس يستصرخه اليوم، أي يصرخ بصوت عالٍ طالبا النجدة. ترى ماذا يفعل: هل يتركه وشأنه، خصوصا بعد أن بين له بالأمس أن الاقتتال من عمل الشيطان، أم يجيبه وينصره لأنه مظلوم حتى وإن قصر ولم يراعِ الظروف المحيطة؟ هذا موقف قد يتعرض له أي منا فكيف يتصرف؟

في البداية وجه لوما شديدا وعتابا أليما وتوبيخا للإسرائيلي: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فهو يظهر بهذا استياءه واستنكاره لما فعله الإسرائيلي من توريط نفسه في معارك جانبية مع الأقباط هو ليس أهلا لها، بل هي ذات آثار سلبية على المجتمع الإسرائيلي. فالغوي هو غير الرشيد في تدبير أموره، إذ الغي ضد الرشد ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ، وهذا الإسرائيلي كان نقصان رشده مبينا أي ظاهرا في تصرفاته وسلوكه.

ومع هذا اللوم، وبرغم الحالة النفسية التي كان يمر بها موسى من خوف وترقب، إلا أنه لم يتأخر عن أداء واجبه واتخاذ الموقف المناسب في الوقوف ضد القبطي الظالم؛ فتوجه بسرعة إلى القبطي الذي هو عدو لهما ليأخذه بشدة وقوة، وينتصر للإسرائيلي. خاف القبطي من مصير محتوم كمصير صاحبه بالأمس، حيث يبدو أن الخبر انتشر في أوساط المجتمع، ربما لأن الإسرائيلي غير الرشيد أشاعه في قومه على سبيل الافتخار بقوة موسى وقدرته. ولذا نجد القبطي يوجه كلامه إلى موسى قائلا له في استنكار: ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.

إذن لقد شاع خبره، وعقد كبار الأقباط اجتماعا تشاوريا لمناقشة الحادثة، واتفقوا على قتل موسى والتخلص منه. هذا ما أخبره به الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، أي من أطرافها، والأطراف منازل الأشراف، أي علية القوم كما يقولون. جاء الرجل مسرعا لخوفه على موسى وحبه له، فأخبره بنتيجة الاجتماع وأشار عليه بالخروج من حدود مملكة فرعون كنصيحة أخوية.

وبالفعل استجاب موسى بسرعة لهذه النصيحة، فخرج من المدينة كما أصبح فيها ﴿خائِفاً يَتَرَقَّبُ، وتوجه إلى الله تعالى طالبا منه أن ينجيه ويخلصه من الظلمة وشرورهم.

وقفات:

1- ضرورة وعي الإنسان بذاته وقدراته وإمكاناته، وأنها نعمة من الله تستوجب الشكر بتسخيرها واستثمارها في رضاه تعالى، وليس في خدمة الطغاة والمجرمين. فنحن نرى وللأسف أن كثيرا من أصحاب الطاقات والكفاءات اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فسخروا علمهم وثقافتهم وقوتهم في خدمة الظلمة ومشاريعهم.

2- الانتصار للمظلوم حتى مع انتقادنا لطريقته وأسلوبه. فالمسألة مبدئية ( كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا ).

3- تأنيب من يستحق التأنيب وتوبيخه، خصوصا إذا كان لتصرفاته آثار سلبية على مجتمعه.

4- البطش هو الأخذ بسرعة وقوة وعنف، وهو ليس مذموما إذا استُخدم مع المعتدي لردعه ورد اعتدائه، بل يكون مطلوبا، وهذا ما أراد أن يفعله موسى . أما البطش المذموم فهو بطش الجبارين لأن منطلقه الظلم الذي لا يراعي حرمة لشيء ﴿وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ

5- قوله ﴿وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ يدل على صورة ذهنية تكونت عن موسى بأنه يدعو إلى الإصلاح ويعمل له. ولذا يستنكر القبطي مخالفة هذه الصورة.

6- اختلف المفسرون في من هو القائل: ﴿يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ. هل هو القبطي الذي أراد أن يبطش به موسى كما هو سياق الآية، أم هو الإسرائيلي حيث ظن أن موسى سيبطش به بعد توبيخه له؟ بل إن مفسرا واحدا هو (سيد قطب) تبنى في كتابه (التصوير الفني في القرآن) الرأي الثاني، ثم عدل في تفسيره (في ظلال القرآن) للرأي الأول.

ونحن نميل للرأي الأول لأن الكلام الصادر في حق موسى والذي يصفه بالجبار لا يمكن أن يصدر من أحد من شيعته، وإنما من مناوئيه وأعدائه الذين لا يرون الإصلاح إلا في الوقوف إلى جانبهم.

7- قوله ﴿إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ:قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: والجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم، كقوله عز وجل: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ إبراهيم/15، وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا مريم/32، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ المائدة/22. انتهى.

قوله ﴿جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ قد يستفاد منه أولا أنه لم يقل (جبارا في المدينة) بل قال ( في الأرض ) وذلك لتشنيع الفعل وآثاره. وثانيا: إن الجبارية من الإنسان مستقبحة عقلا، كما إن الإصلاح مستحسن عقلا أيضا.

8- المؤمن يحمل طقسه معه، ولا يتأثر بالطقس الخارجي، فهذا الرجل يحضر الاجتماع التشاوري للاطلاع على ما يجري، ومعرفة ما يدور فيه، كأنه يمارس دور المخبر السري، ثم ينطلق بسرعة إلى موسى لا ليخبره فقط بل ليقترح عليه ما يفعل لمواجهة الموقف. وهذا يعطينا درسا في عدم الاكتفاء بطرح المشكلة، بل علينا أيضا اقتراح الحلول المناسبة لها، وتقديمها بشكل مناسب أيضا ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.

9- قد يستدل على قوله ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ على تنزيهه عليه السلام، إذ لو كان ظالما لما دعا هذه الدعوة.

10- تكرر في هذه الآيات قوله ﴿رَبِّ، وفي هذا تذكير لنفسه ولنا بأن المربي الحقيقي هو الله الذي نسأله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم.

شاعر وأديب