انتقدوا كي تقدموا

 

 

 

في المجتمعات المتخلفة يندر ممارسة النقد؛ فيبدو الأمر وكأن لسان حال الجميع : كله تمام يا فندم، على الرغم من حالة الاستياء والتذمر التي إما أن تبقى حبيسة في النفوس يتم إفراغ شحناتها السالبة في مونولوج لا يتجاوز الذات، ويزيدها عذابا فوق العذاب؛ وإما – في أحسن الأحوال- تخرج إلى الفضاءات المغلقة في المجالس والديوانيات كأحاديث على الهامش تندلق مع رشفات الشاي والقهوة، أو تُزفر مع دخان الأرجيلة دون أن تصل إلى أحد ممن يعنيه الأمر.

ويرجع هذا في الغالب إلى أن بنية هذه المجتمعات لا تشجع النقد، وتنظر إليه نظرة سلبية، ففي العرف العام الكبير أفهم من الصغير ( أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة )، و ( الشيوخ أبخص ) و ( ليس بالإمكان أفضل مما كان )، والمسؤول أدرى من المواطن بمصلحته، والمدير أحرص من الموظف على الشركة أو المؤسسة، والمنتقد – الذي يرشد إلى العيوب والأخطاء - يعتبر عدوا لدودا يجب التخلص منه لأنه كائن مزعج لا هم له إلا تصيد العثرات، أو ربما ينبغي ترقيته إلى مستشار مما يعني غالبا تجميد صاحبه في منصب شرفي، إذ لا رأي لمن لا يطاع.

يضاف لكل ذلك التاريخ السلبي الطويل والتجارب المرة التي انتهت إليها الانتقادات والمنتقدون، إذ كان مصير الانتقادات في الغالب سلال المهملات، ومصير المنتقدين أن تحولوا إلى أعداء شخصيين ينبغي أن تعطل معاملاتهم وترقياتهم ومكافآتهم، وأن يحاسبوا بدقة على كل صغيرة وكبيرة.

وقد انسحب الموقف من النقد والمنتقدين على كافة مناحي حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ حتى صار التطرق للعيوب عيبا، مما شل تطورنا على جميع الأصعدة، وكيف لنا أن نتطور ونحن نشعر أننا الأول والأفضل والأكمل... إلى آخر قائمة مفردات أفعل التفضيل.

ومع أن تراثنا الإسلامي يحفل بالكثير من الأدبيات التي تعلي من شأن النصيحة والناصح، ومع أن القرآن الكريم- والله لا يستحي من الحق – وجه النقد المباشر لسلوكيات صدرت عن بعض الصحابة في معركة أحد ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) سورة آل عمران، مع كل ذلك، إلا أن كثيرا منا في الواقع العملي لا يحب الناصحين، ولا يفرق بين نقد التشهير والتجريح ونقد المعالجة والتصحيح.

ما أحوجنا أن ندرس من تراثنا بعمق مقولة أمير المؤمنين عليه السلام التي يحرض فيها على النقد، ويوضح العلاقة الطردية بين تقبل النقد والعمل بالحق والعدل، قائلا بكل تواضع «لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ، ولا آمن من ذلك من فعلي إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي»[1] ، يطلب هذا مع غزارة علمه الذي وصفه بنفسه في عبارة خالدة: «بل اندمجت على مكنون علم لو بُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة»

علينا إذن أن نفسح المجال للنقد في كل المجالات وعلى كل المستويات، وأن نفتح صدورنا لتقبل النقد، وإلا فإننا سنظل نراوح مكاننا في المربع الأخير.

شاعر وأديب