الأمور بخواتيمها

 

 

 

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) سورة غافر.

هنا نصل إلى نهاية الحوار الذي حاول من خلاله مؤمن آل فرعون ثني قومه عن قتل موسى عليه السلام، ودعاهم لما فيه نجاتهم، ولكنهم لا يفقهون. هكذا تخذل الشعوب أحيانا من يريد بها الخير، فلا تنصت إليه، ولا تتبعه، بل تتكالب عليه. كل ذلك بسبب الجهل وتغليب المصالح العاجلة، وعدم الاستعداد للتضحية. لقد بذل كل جهده، واستنفد كل الوسائل، ولكنهم لم يستجيبوا، فألقى إليهم رسالته الأخيرة ﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ.

وقفات:

1- لم يقل (فسوف تذكرون) بل قال ﴿فَسَتَذْكُرُونَ معبرا بذلك عن قرب المصير، وعن يقينه من أمره، ويقينه من مصيرهم. فعن قريب ستذكرون ما أخوفكم منه وما أدعوكم إليه؛ عن قريب ستدركون أنكم لم تطلبوا نجاتكم وأنكم مخطئون.ساعتها ستندمون حين لا ينفع الندم. هذا الكلام بمثابة جرس الإنذار الأخير، وهو إعلان لنهاية خطابه وعدم تحمله أي مسؤولية تجاه مصيرهم الأسود المحتوم.

2- تفويض الأمر إلى الله حين تعيي الإنسان الحيلة. هذا ما فعله مؤمن آل فرعون، إذ توجه إلى الله تعالى مفوضا أمره إليه ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِباد.

حين لا يكون لدى الإنسان حول أو حيلة عندئذ يكون التفويض، فحال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه كما يقول صاحب تفسير الميزان في تفسير هذه الآية.

ويقول الإمام الصادق : والمفوض حقا هو الفاني عن كل همة دون الله تعالى .
أما حين يكون للمرء حول أو حيلة – أي يمكنه أن يفعل شيئا ما – فإن ذلك ليس مورد التفويض وإنما مود التوكل على الله.

3- التفويض يكشف عن ثقة تامة بالله تعالى وما يفعله. فكل ما يفعل مرضي عند الإنسان المفوض. لقد فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله أمام قوتهم وجبروتهم ومكرهم، وعلل ذلك التفويض بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.

4- يعلق السيد الطباطبائي على قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وذكر اسم الجلالة ظاهرا بدل الضمير، حيث لم يقل: (إنه بصير بالعباد) كما هو مقتضى الظاهر. يقول رحمه الله: وذلك إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لأنه الله عز اسمه .

5-أما قوله ﴿بِالْعِبادِ ولم يقل بالناس لأن العبد أظهر في عدم ملكيته شيئا من أمره.

6- تذكر الآيات بعد ذلك أن الله كفاه شرهم ووقاه ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وفي هذا إجمال لما أرادوا به من سوء.

هنا تأتي روايات أهل البيت عليهم السم لتبين لنا هذا المجمل. ففي تفسير نور الثقلين عن أبي عبد اللّه في قول اللّه ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا قال: أما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.

وفي بحار الأنوار: قال أبو عبد اللّه واللّه لقد قطعوه إربا إربا، ولكن وقاه اللّه عز وجل أن يفتنوه عن دينه .

إذن فقد سلم من مكرهم السيء لأنه لم يُصَب في دينه بسوء، برغم أنهم قطعوه إربا إربا، فقد ثبته الله وخيب آمالهم. لقد حاز الشهادة ورضا الله سبحانه، أما آل فرعون فقد نزل بهم سوء العذاب. فإذا كان كل عذاب سوء فكيف بسوء العذاب؟

7- تفسر الآية التالية (سوء العذاب) بالعذاب في البرزخ، وفي يوم القيامة. في البرزخ بالعرض على النار في أول النهار وآخره: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا كناية عن العذاب الدائم، أو أن العذاب يقع على فترتين أو وجبتين. ثم العذاب المقيم الأشد ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.

8- النهايات ظاهرها واحد، ولكن ما بعدها مختلف. فقد مات مؤمن آل فرعون، ومات آل فرعون، ولكن أين صاروا وأين صار؟!

اللهم ثبتنا على دينك ما أحييتنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.

شاعر وأديب