المرأة ذات الخيارات الصعبة

 

 

 

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) سورة التحريم

ملكة القصر والسيدة الأولى وباقي الألقاب الفخمة التي يمكن أن تطلق على امرأة فرعون أعظم ملوك عصره الذي قال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي .كيف استطاعت هذه المرأة أن تحدث النقلة النوعية الكبرى في حياتها لتتحول إلى مضرب المثل الإلهي في القدوة للذين آمنوا رجالا ونساء.

النساء حولها كن يحسدنها بالتأكيد على مقامها الرفيع عند فرعون، وعلى ما تتنعم به من حياة في غاية الرفاه، فرغباتها أوامر، وطلباتها مجابة، والبلاط الملكي بمن فيه وما فيه رهن إشارتها، والأضواء مسلطة عليها. أي امرأة لا تتمنى ذلك؟!!

أما هي فقد أحدث الإيمان في قلبها تغيرا جوهريا، فلم تعد ترى في كل ما حولها سوى سجن رهيب لروحها المتطلعة إلى الجمال الرباني المطلق.لم تعد تكترث لكل ما يجعلها حبيسة الجسد ورهينة البيئة المادية المترفة التي لا تقيم للروح وزنا.

تخلصت من إغراءات الشهوات التي تشدها إلى الأرض بقوة حديدية لا يملكها أعتى الرجال لأنها قوة الإيمان الذي أشرب في قلبها الطاهر. رفضت فرعون وامتيازاته، وضحت بمكانتها الاجتماعية المرموقة في درس بليغ لكل المطبلين للظلمة والمقتاتين على فضول موائدهم، وما أكثرهم في زماننا هذا.

ثم تعرضت لأقسى اختبار يمكن أن يتعرض له إنسان، فقد ورد كما في بحار الأنوار أن فرعون أمر بها حتى مُدت بين أربعة أوتاد، ثم لا زالت تعذب حتى ماتت .

كيف يمكن لامرأة ضعيفة بطبعها أن تتحمل كل هذا العذاب؛ يداها ورجلاها مثبتتان بالمسامير تحت أشعة الشمس الحارقة وفوق صدرها صخرة عظيمة؟!!! إنه الإيمان مرة أخرى يصنع العجائب إذا تمكن من القلوب.

في تلك الأوقات العصيبة لم يكن لها من ملجأ سوى الرب الذي يسمع أنينها ويرى عذابها ويعلم صدقها، فنادته في نداء غاية في الجمال: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين.

وقفات:

1- الإنسان يمكن أن يصل إلى أسمى مراتب الإيمان وهو في أبعد البيئات عنه. هذا ما فعلته (امرأة فرعون) مدعي الألوهية حين أصبحت بإيمانها وصمودها مضرب المثل للذين آمنوا وقدوتهم. فالبيئة ليست عاملا حتميا في تقرير مصير الإنسان، وإلا لكانت (امرأة نوح وامرأة لوط) في قمة الإيمان و (امرأة فرعون) في حضيض الكفر، ولكن الذي حدث هو العكس تماما.

2- قولها: ﴿رَبِّ بدون ياء النداء يدل على قربها من الله سبحانه.
3- قولها ﴿ابْنِ لِي فهي تطلب من الله تعالى أن يبني لها بيديه بيتا، وفي هذا عناية خاصة كما يقول تعالى ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .

4- قولها ﴿عِنْدَكَ بَيْتاً ولم تقل (بيتا عندك) لأنها تطلب القرب المعنوي من الله تعالى أولا فهو الغاية أما الوسيلة فبيت في الجنة. وسيلة شريفة لغاية في منتهى الشرف ومطلقه.

في الحديث أنّ رجلًا قال للصادق عليه السلام: ولا رطب ولا يابس إلّافي كتابٍ مبين، والجار ثمّ الدار من أمثال العرب، فأين هذا من كتاب اللَّه؟ فقرأ عليه السلام قوله تعالى حكاية عن امرأة فرعون: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ .

5- قد يتمنى الإنسان الموت على الحياة مع الظالمين، فكما قال مولانا الحسين عليه السلام: إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما. وقد طلبت (آسية بنت مزاحم) من الله تعالى أن يخلصها من فرعون وعمله ومن قومه الظالمين السائرين في ركبه المزينين له عمله.

6- وطلبت الخلاص من كل ما يمت للظالم بصلة، من الظالم نفسه ﴿فِرْعَوْنَ ومن الظلم ﴿وَعَمَلِهِ ومن أتباع الظالم ﴿مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
فاستجاب الله دعاءها، وجعلها عنده في أعلى عليين زوجا لأكرم الخلق أجمعين:

فقد ورد عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- أنّه دخل على خديجة- عليها السلام- و هي في مرض الموت فقال لها: (بالرغم منّا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فأقرئيهنّ السلام، فقالت: من هنّ يا رسول اللّه؟ فقال: مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون)

ما أعظم هذه المرأة من حجة علينا جميعا رجالا ونساء.

شاعر وأديب