الإمام علي و منظمة الشفافية الدولية

 

يعرف الكاتب الصحفي محمد الرطيان "المال العام" في العالم العربي تعريفا ساخرا: هو "المال" الذي إذا اجتهدت بالمحافظة عليه لن تجد من يشكرك وإذا قمت في ليلة ظلماء «غاب فيها القمر.. وضميرك» بالسطو عليه لن تجد من يحاسبك!

تشعر أحياناً أنه مال "سايب" ويُعلّمك السرقة!

وتعرف منظمة الشفافية الدولية الفساد على أنه سوء استعمال الوظيفة في القطاع العام من أجل تحقيق مكاسب شخصية.

الحديث عن هدر المال العام لا سيما في عالمنا العربي متشعب جدا ويشمل العديد من العناوين مثل التكاليف الخيالية لتنفيذ المشاريع الحكومية، الرشوة، السرقة، التلاعب في المزايدات والمناقصات، عقود الباطن، التداخل بين شاغلي الوظائف العليا الإدارية والسياسية وعضوية مجالس الإدارة في الشركات المحلية والأجنبية، وغيرها. ولعل الأسوأ من ذلك هو حالة التطبيع مع الفساد وهدر المال العام التي أصبحت تعيشها مجتمعاتنا، ووصلت عدوى التطبيع إلى ما وراء البحار بحيث أن الإدارة الأمريكية لا تعتبر الرشاوى والعمولات والهدايا التي تدفعها الشركات الأمريكية في العالم الثالث من الفساد الخاضع للمحاسبة. هكذا يشرعون القوانين الالتفافية حين تصطدم المصالح الرأسمالية بالمبادئ، لذا يبقى النموذج الغربي مهما تعالى ناقصا ومشوها أمام النموذج الذي لو اطلعت منظمة الشفافية الدولية بحيادية على سيرته وكلماته لطلبت من العالم أن يحتذي حذوها ويستضيء بهديها، ولجعلته مثالها الأبرز.

والنموذج الذي نعني هو علي بن أبي طالب ، الذي مارس المبادئ الإسلامية المحمدية بحرفية عالية من خلال التالي:

1- ترسيخ مبدأ مساءلة الحاكم: من أين لك هذا؟، فقد طلب من شعبه محاسبته، وخاطب أهل الكوفة عاصمة دولته، قائلا مقولته الذهبية:

«يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فأنا خائن»
وكان قبل خروجه من البصرة متجها إلى الكوفة يعلن بشفافية متناهية:
«ما تنقمون مني يا أهل البصرة؟ وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته، فقال: والله ما هي إلا من غلتي بالمدينة فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين»

وفي الواقع لم يكن ينتظر مساءلة أحد، بل كان شديد الحساب لنفسه، يقول عليه السلام: أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟!

وكانت نفقته - كما يذكر التاريخ - تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس الخبز واللحم ويأكل هو الثريد بالزيت.

2- المساواة في تقسيم المال العام، فالمواطنون في ذلك سواء:

روى الثقفي في الغارات: أن امرأتين أتتا عليا عند القسمة، إحداهما من العرب، والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهما، وكرا من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم، فقال علي : «إني لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحاق»

3- لا للامتيازات الخاصة للأقربين في المال العام:

وقصة أخيه عقيل الذي طلب منه مساعدة خاصة من بيت المال تحت وطأة الظروف المادية الصعبة، يقول الإمام : «وعاودني مؤكدا. وكرر علي القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقا طريقتي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى»

4- الاحتياط الشديد في التصرف في الأموال العامة:

يظهر ذلك من خلال التعميم المرسل إلى ولاته وعماله الذي يأمرهم فيه بالاقتصاد والاختصار والتركيز حتى لا يضيع وقت وأموال المسلمين:
«أدقوا أقلامكم وقاربوا بين سطوركم واحذفوا عني فضولكم واقصدوا قصد المعاني وإياكم والإكثار فان أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار»

5- المراقبة والمحاسبة الدقيقة لولاته وعماله:

حيث كان يرسل العيون والأرصاد من الثقات ليبعثوا له التقارير عن أحوال الولاة، فيحاسبهم عن كل تقصير. كتب إلى زياد بن أبيه: «وإني أقسم بالله عز وجل قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدّن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر»

6- الفصل من الوظيفة وإيقاع العقوبة بالمتلاعبين بالمال العام:

والقرارات في هذا المجال تحتاج لبحث مستقل.
بلغه أن أحد عماله - واسمه ابن هرمة - قد خان سوق الأهواز فكتب الإمام إلى واليه: «إذا قرأت كتابي فنح ابن هرمة عن السوق، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأينا فيه ولا تأخذك فيه رأفة ولا تفريط فتهلك عند الله، وأعزلك أخبث عزلة، وأعيذك بالله من ذلك»

7- منع أخذ الرشاوى وقبول الهدايا تحت أي مسمى:

يقول : «أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولا «أي خيانة»، وإن أخذ رشوة فهو مشرك.»

8- تحريض الناس على المطالبة بحقوقهم:

فهو من جهة يوبخهم على التقاعس عن المطالبة: «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون»، ومن جهة أخرى يؤسس قناة لاستقبال الشكاوى والمظالم، سمي «بيت القصص» كما جاء عن «صبح الأعشى»: أول من اتخذ بيتا ترمى فيه قصص أهل الظلامات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ومن جهة ثالثة كان يتخذ الإجراء السريع الحازم والمناسب تجاه أي شكوى أو مظلمة، كما حدث مع سودة الهمدانية التي اشتكت الوالي عنده، فأخرج قطعة جلد فكتب فيها في الحال:
«بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين» فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه والسلام.

هذا غيض من فيض النموذج الذي نبشر به، والذي يجب أن تترجم كلماته وسيرته لكل لغات العالم إقامة للحجة ونشرا للقيم السامية الحقة التي لم تكن كلاما فقط، بل تجسدت في شخص هذا الرجل العظيم كل التجسد.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 9 / 8 / 2012م - 9:27 م
الأستاذ الكبير بدر / وفقه الله
الحرفية و الدقة و التحديد السليم ليست جديدة عليك ، بينما شيوع الفساد و أشكاله المختلفه هو القديم المتجذر ، شخصية نادرة كالإمام علي (ع) جديرة بمعرفة أسس الحكم منها ، ممن يملكون السلطة اليوم ، بل ممن يدعون إنهم يسيرون على نهجه ، فهل يفعلون ؟
أثابكم الباري ، و لاحرم القارئ من نور حروفكم .
شاعر وأديب