ابحثوا عن التهميش

 

 

 

يقولون للنجاح ألف أب، أما الفشل فلا أب له. هذا هو بالضبط ما حدث بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية؛ حيث أصبح الجميع من منظري الثورة وداعميها وأصحاب اليد الطولى في صنعها. حتى الأقلام التي كانت تسبح بحمد النظام قبل سقوطه بقليل، سرعان ما تناست تاريخها لتعلن طلاقا بائنا معه، ولتستبدل خطابها بآخر ثوري راديكالي في خطوة براغماتية لا يجيدها إلا البهلوانات.

ولم يقتصر الأمر على أهل الثورة، بل تعداهم إلى الخارج، فسعد الحريري تحدث عن إسهام ( ثورة الأرز ) وأنها هي التي افتتحت عهد الثورات في العالم العربي؛ وهو ادعاء رفضته الإعلامية التونسية كوثر البشراوي جملة وتفصيلا في مقابلة تلفزيونية معها.

والصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، بحث عن القوى الخفية التي غذت الاحتجاجات في العالم العربي، فوجدها خمسا لم يفكر بها عفريت من قبله، ولا يعقلها إلا الراسخون في التدليس، لأنها جميعا ذات علاقة بالنظام الرأسمالي الغربي.

أولها هو الرئيس أوباما بشخصيته الشابة ذات الأصل الأفريقي واللون الأسمر، واسم والده، ودين جده. هذه المفردات الأوبامية كانت ملهمة لشباب الثورة، بحسب مقال فريدمان في نيويورك تايمز.

ثاني القوى غوغل إيرث (نظام غوغل للخرائط): فقد أمد المعارضة الشعبية البحرينية بأسباب الاحتجاج، إذ كشف لها حقيقة وجود مساحات شاسعة غير مستغلة في البحرين، بينما تعاني البلاد في كثير من مناطقها من كثافة سكانية خانقة.

ثالثها أو ثالثة الأثافي : إسرائيل، حيث لعبت دورا أساسيا في إذكاء الثورات من خلال محاسبتها لمسؤوليها، في الوقت الذي كان فيه أصغر مسؤول عربي فوق المحاسبة، كأن العصمة مقرونة بالمنصب دائما.

رابعها، وأرجو أن لا تعجب: أولمبياد بكين،فالحفل الافتتاحي لأولمبياد بكين عام 2008 أيقظ الكثير من المصريين على واقع حالهم، وجعلهم يتساءلون: لماذا الصينيون وليس نحن؟

خامسها وأخفاها، بل أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء: سلام فياض، رئيس وزراء حكومة رام الله. يرى فريدمان بأن ( الفياضية ) هي نموذج ملهم في الحكم، حيث يقيّم الناس حكومته على أدائها من ناحية تقديم الخدمات واستحداث فرص عمل، لا على مستوى معاداتها للغرب ومقاومتها لإسرائيل.

لا يهمنا الآن التوقف كثيرا عند خماسية فريدمان، ولكنها تكشف عن طريقة التفافية لسرقة الثورة تقوم على بعثرة متنها في هوامش خارجية لا تمت لها بصلة. فما لا يقوله فريدمان أهم بكثير مما قاله، حيث أغفل متعمدا الشعور بالمرارة والإحباط لدى الشارع العربي من مواقف الإدارة الأمريكية تجاه قضاياه، ودعمها للاستبداد في تونس ومصر وغيرهما، وكذلك الإحساس بامتهان الكرامة بسبب العربدة الإسرائيلية التي لا تجد من يردعها، وبسبب الاتفاقيات السياسية والاقتصادية المذلة معها.

العامل الأساس وراء ما حدث- مع عدم إغفال العوامل الأخرى- يمكن أن نلخصه بكلمة واحدة هي التهميش؛ فلم تكن البطالة والفقر والفساد إلا عوامل مساعدة بدليل أن معظم الشباب المشاركين في صنع الثورات هم من الطبقة المتوسطة من أصحاب المؤهلات العلمية الجيدة.

التهميش هو الذي جعل التونسيين والمصريين يكرهون كل ما له علاقة بالحزب الحاكم في بلديهما، والذي كان مطلق اليد عقودا طويلة يتصرف في مقدراتهم وباسمهم كيف يشاء.

والتهميش هو الذي طالب البحرينيون واليمنيون والليبيون بإزالته تحقيقا للمشاركة الشعبية الحقيقية في شؤونهم.

والتهميش بكافة تمظهراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في عالمنا العربي هو ما ينبغي أن يسعى الجميع لرفعه والتخلص منه ليشعر المواطن بمواطنته، وليشارك في صنع مستقبل وطنه على كافة المستويات.

من هنا فإن من الضروري على حراس الثورات أن لا يغفلوا عن هذا العامل، وأن لا يسمحوا بتهميش أنفسهم أو غيرهم، وأن يصروا في كل خطوة على المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات المصيرية. فمن أكبر الأخطاء الظن بأن المهمة انتهت بسقوط رأس النظام، بل ذلك بداية البداية.

لقد سقط النظام في مصر مثلا، ولكن رموزه لا تزال عصية على المساءلة والمحاكمة بدءا من رئيسه مرورا بالقطط السمان التي كانت تحيط به. في المقابل لم تكن نسبة المشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية كبيرة، الأمر الذي يستدعي عملا ثقافيا وسياسيا ضخما يستبدل ثقافة الغياب والتهميش بثقافة الحضور اليقظ، وإلا فسيكتشف الجميع ولو بعد حين أن الأحلام تتبخر شيئا فشيئا.

شاعر وأديب